بعد محاولة انتشالهم عبثاً من النار مرات عدة: الفاتيكان للموارنة “اللهم اني حاولت!”!
غيابان عن لقاء بكركي رسما علامات استفهام عدة ولو بنسب مختلفة، الأول غياب الثنائي الشيعي وتحديداً “حزب الله”، والثاني غياب ركني المعارضة المسيحية أي سمير جعجع وسامي الجميل.
الثنائي الشيعي يأخذ على البطريرك بشارة الراعي إلصاق تهمة الارهاب بالعمليات العسكرية المنطلقة من الجنوب، في حين يتردد أن المعارضة قالت ما قالت ورفعت السقف الى أقصاه في معراب والصيفي وفي مناسبات أخرى، وباتت تؤمن بأن حل العقدة الرئاسية موجود في البرلمان وفي قبضة الرئيس نبيه بري تحديداً، وأن أي مكان آخر لن يكون الا سجالاً عقيماً وتبادلاً لأفكار معلبة مسبقاً.
وقد تكون المعارضة على حق في هذا المجال، لكن توقيت الغياب لم يكن في محله وفق مصادر كنسية وسياسية، معتبرة أنها لم تقاطع لقاء عادياً، بل قاطعت لقاء وطنياً رعاه رئيس الكنيسة الكاثوليكية في وقت بدا سيد بكركي في حاجة الى رجال من وزن جعجع والجميل في مواجهة فريق مسلح قال في رأس الكنيسة المارونية ما لم يقله أعتى الغزاة وأكثرهم بطشاً.
وأشارت المصادر الى أن الأمر بدا وكأن الرجلين لم يتنبها لنداءات اغاثة غير مباشرة خرجت من مئذنة الصرح، وتعاملا مع الحدث وكأنه لزوم ما لا يلزم، أو على الأقل اجترار لمواقف مستهلكة وعقيمة لا تستأهل عناء المشاركة.
وذهب مصدر كنسي بعيداً الى حد القول إن قادة “حزب الله” وحزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب” تعاملوا مع اللقاء، سواء قصداً أو عفواً، بطريقة بدا فيها الثنائي الشيعي “دياناً” وبدا فيها المعارضون “عصاة”، قائلاً: إذا كان موقف الشيعة الذين يعانون عزلة خانقة في الداخل مفهوماً ويتعاملون مع بكركي من منطلق فوقي، فإن موقف جعجع ومعه سامي الجميل بقي ملتبساً، خصوصاً أن ما فعلاه لم يصب بكركي وحدها بل أصاب الفاتيكان أيضاً، وحوّل الكاردينال بيترو بارولين موفد البابا فرنسيس الأول الى مجرد “ضيف عادي” حطَّ بين المسيحيين المتخاصمين وتركهم أكثر خصومة وابتعاداً.
لكن مصدراً قريباً من معراب، يرفض هذا الانطباع ويشدد على أن جعجع قاطع اللقاء لأسباب أمنية أولاً بعد تلقيه سلسلة من التحذيرات والتهديدات، وثانياً لعلمه المسبق أن الحيثيات المسيحية المعنية بانتخاب الرئيس لن تتراجع عن موقفها ترشيحاً كما هي حال سليمان فرنجية وانتخاباً كما هي حال جبران باسيل، وثالثاً لأنه يرى أن ما يستطيع الاتفاق عليه في لقاء جانبي مع بارولين، هو أكثر تأثيراً ووقعاً من اجتماع تختلط فيه الآراء وتتشابك فيه المواقف.
ويضيف: ان ما جرى لم يكن موجهاً الى الموفد البابوي الذي يعرف جيداً وضع جعجع الأمني ومواقفه من موضوع الرئاسة ومعرقليه، ولا الى الفاتيكان، بل الى حال مسيحية مشرذمة لا يبدو أحد قادراً على توحيدها سواء كان روحياً أو مدنياً.
الا أن مصدراً قريباً من بكركي، يصر على أن ذلك لا يبرر ما حدث، مشيراً الى أن غياب جعجع كان لافتاً وثقيلاً، وأن مستوى التمثيل الذي جاء على مستوى نائب، وليس على مستوى نائبه جورج عدوان أو زوجته شكل سقطة سياسية أخرى. ويؤكد أن الرجل كان يحاول إفهام من يهمه الأمر أن من غير الممكن التساوي بين رجل يسعى الى ملء الشغور في بعبدا ويقف في وجه السلاح المهيمن على قرارات البلاد، وآخر يسهم في ترئيس حسن نصر الله في الضاحية الجنوبية.
والواقع، في الشكل على الأقل، يمكن تسجيل ملاحظتين لافتتين: الأولى أن فرنجية أبدى بعض الاستقلالية عندما حضر اللقاء متجاهلاً القطيعة الشيعية، والثانية أن باسيل استفاد من غياب خصميه المارونيين لتعويم نفسه مسيحياً والحد من تداعيات “اتفاق مار مخايل”، والانفتاح أمام الشاشات على فرنجية، وحجز مقعد ثابت أو متقدم له في أي تسوية يتوصل اليها الفاتيكان، ونفض يديه من التهم التي تحمّله المسؤولية عن الفراغ الرئاسي أو حتى التشرذم المسيحي الذي لمح اليه الموفد البابوي جهاراً.
والواقع أيضاً أن باسيل استفاد من “حركة” الانفتاح على فرنجية لتحقيق هدفين أساسيين: الأول مراضاة “حزب الله” والابقاء على خيط معاوية بين الفريقين، والثاني “زكزكة” جعجع وربما وضعه بين خيارين: اما التوصل الى رئيس يسمّيه باسيل، واما انتخاب فرنجية نكاية به، تماماً كما فعل جعجع عندما فضّل عون على فرنجية.
انها، في نظر الفاتيكان حرب المئة عام بين الموارنة، الحرب التي تأكل أبناءها الواحد بعد الآخر، والحرب التي حوّلت الكاهن الى تاجر والكنيسة الى متجر، والسياسي الى سلطان والحزب الى قبيلة والوطن الى مقعد في مجلس أو في قصر.
وليس من قبيل المصادفة، أن يتعامل الفاتيكان مع الموارنة من باب رفع العتب بعدما حاول عبثاً انتشالهم من النار مرات عدة، موحياً هذه المرة بأن مسعاه الأخير قد يكون فعلاً مسعى أخيراً تحت شعار: “اللهم اني حاولت”.
وذهب أحد الكرادلة في الصرح البابوي بعيداً الى حد القول: لو عاد المسيح الى العالم اليوم لكرر ما قاله على الصليب: “اغفر لهم يا أبتي لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون”، مستدركاً: ليس المقصود هنا أن كل الموارنة سواسية في ما أصابهم وأصاب لبنان، بل المقصود ان النيران تحيط بهم من كل حدب وصوب وهم في الداخل يختلفون على من أشعل النار بدل التضامن لاخمادها قبل أن تقضي على من تبقى من المسيحيين أو أن تأتي على ما تبقى من لبنان.
انطوني جعجع- لبنان الكبير