سيناريو سريالي من جزءين: “حزب الله” ودراما مثلث لبنان – قبرص – إسرائيل
الأساس في إشكالية تهديد “حزب الله” الحكومة القبرصية هو هذا المثلث في دينامية العلاقات بين لبنان وقبرص وإسرائيل، والذي شهد تحوّلات جذرية خلال العقود الأخيرة فرضت الأمر الواقع الحالي في سياق محاولات شد الحبال الإيراني – الإسرائيلي على الأراضي القبرصية واللبنانية.
التحالفات والديناميات الإقليمية تغيرت مقارنة بالثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. إذا كان هاجس لبنان اسرائيلياً، فالهاجس القبرصي تركي. في السابق كانت حسابات قبرص حيال اسرائيل مرتبطة بعلاقات الأخيرة الدفاعية الوثيقة مع تركيا بحيث كان موقف الجزيرة واضحاً مع الفلسطينيين في نزاعهم مع اسرائيل. لكن وصول حزب “العدالة والتنمية” الى الحكم في تركيا عام 2003 أدّى الى تعقيد العلاقات التركية – الإسرائيلية، ثم أتى اكتشاف الغاز في شرق بحر الأبيض المتوسط لتشكيل تحالف قبرصي -إسرائيلي – يوناني رأته تركيا تحدياً لها، بحيث أصبح بنيامين نتنياهو في شباط (فبراير) 2012 أول رئيس وزراء اسرائيلي يزور الجزيرة.
كل هذا أدى الى بلورة سياسة قبرصية براغماتية تعطي أولوية لردع تركيا واستغلال موارد الغاز وتشجيع الاستثمارات في الجزيرة من أينما أتت. قبرص أصبحت ملجأ اللبنانيين والإسرائيليين للهروب من مشاكل أنظمتهم، اذ تعطيهم الجزيرة فرصة الزواج المدني بعيداً عن تسلّط المؤسسات الدينية، كما الهروب من الحروب والأزمات المالية لامتلاك العقارات وتأسيس شركات وتقضية العطلات. هذا المثلث مسرحه قبرص مهما كان الموقف منه.
لكن على المستوى الاستراتيجي، ابتعدت قبرص في تحالفاتها العسكرية مع إسرائيل بسبب هذا الهاجس التركي ربما، ما يتعارض مع حيادها وميلها الى التركيز على استقطاب الاستثمارات. الحكومة القبرصية تسمح للجيش الإسرائيلي بإجراء مناورات في مجالها الجوي وتقوم بتدريبات عسكرية مشتركة مع احتمال استخدام اسرائيل قواعد عسكرية تحت السيادة البريطانية لمحاكاة هجوم على “حزب الله” وعلى المرافق النووية الايرانية. هذه المناورات تطرح تساؤلات محقة، ولو مبالغاً بها أحياناً، بشأن نوايا الحكومة القبرصية.
لبنان الرسمي في حال غيبوبة كما تجري العادة. أوصل حسن نصرالله الرسالة بنفسه علناً متجاوزاً الدولة المترهلة وقنواتها الدبلوماسية التي نفضت أيديها علناً من أي دور في هذه القضية. حكومة تصريف الأعمال تترك لـ”حزب الله” إدارة الحرب والسلم فيما هي تنأى بنفسها عن الحد الأدنى من أدوار الدولة وأدواتها. الرد القبرصي الرسمي يحاكي الرد الرسمي اللبناني بحيث أكدت قيادة الدولة في كلا البلدين الحياد ومتانة العلاقات وسياسة النعامة في التعامل مع المواجهات الإيرانية – الإسرائيلية. تصعيد “حزب الله” يحمل في طياته رسالة ايرانية الى اسرائيل وأميركا والاتحاد الأوروبي بأن كل الاستقرار الاقليمي مهدد إذا لم تتوقف الحرب الدائرة في غزة، عبر الربط بين ما يقوم به الحوثيون في البحر الأحمر بموقف “حزب الله” في البحر الأبيض المتوسط لإظهار قدرات وكلاء ايران البحرية عند الضرورة.
الإمعان في تهديدات “حزب الله” يضغط على مصالح اللبنانيين في الجزيرة التي يعتبرونها ملاذهم الآمن. قبرص بوابة لبنان الى الاتحاد الأوروبي والتعامل معها فرصة لتوسيع الأعمال في المنطقة بسبب موقعها الاستراتيجي. كما تسعى قبرص مع لبنان لترسيم حدوده البحرية معها ومع سوريا بعد الاتفاق الإشكالي الذي وقعه لبنان مع قبرص بشأن تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة للبلدين في 17 كانون الثاني (يناير) من العام 2007 والذي لم يتم إبرامه في البرلمان اللبناني. بعدها دخل حيّز التنفيذ عام 2011 اتفاق قبرص مع اسرائيل لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما الذي تم فيه الاعتماد على النقطة 1 كأساس في الحدود البحرية، فيما اعتمد لبنان لاحقا النقطة 23 في اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل. قبرص تقول حالياً إنها موافقة على النقطة 23 وتطالب بتثبيت هذا الأمر في اتفاق بين قبرص ولبنان.
أمين عام “حزب الله” تخيل في خطابه سيناريو سريالياً من جزءين، الأول هو أن “حزب الله” لديه قدرة على تعطيل كل القواعد الجوية الإسرائيلية، والثاني أن قبرص بأولوياتها السياحية راغبة أو قادرة على توريط نفسها في حرب إقليمية عبر فتح مجالها الجوي للطائرات المقاتلة الإسرائيلية لقصف “حزب الله”. مع الإدراك أن هدف “حزب الله” هو الحرب النفسية والمبالغة بالتهديدات لغاية الردع، لا بد من تقييم مسببات التحولات القبرصية. لا يمكن لـ”حزب الله” أو لبنان الفرض على قبرص الاختيار بين لبنان واسرائيل بل التنافس السلمي ضمن تعقيدات هذا المثلث الذي لن تتغير ديناميته في المدى المنظور.
جو معكرون- النهار العربي