هل يعرف نصر الله أن أي اعتداء على قبرص سيكون بمثابة اللعب بين الألغام؟
كثرة الصراعات تؤدي دائماً الى كثرة الانكسارات
لا شك في أن حسن نصر الله يتعامل مع حرب غزة من منطلقين شبه انتحاريين، الأول أنه يخوض استنزافاً فجاً من أجل أهل غزة على حساب أهله وبيئته، والثاني أنه يتعامل مع العالم بصفته “قوة جبارة” لا تهاب أحداً ولا يقوى عليها أحد ولا تنهزم أمام أحد.
في “حرب تموز”، كشف مسؤول عسكري كبير مع مرور نحو ثلاثين يوماً على الحرب، أن نصر الله أبلغ الى القيادتين العسكرية والسياسية في بيروت أنه “لم يعد قادراً على الصمود أكثر من بضعة أيام”، طالباً السعي الى الحصول على أي قرار يؤدي الى وقف اطلاق النار وبأي ثمن.
وأضاف أن الرئيس فؤاد السنيورة والديبلوماسية اللبنانية تمكنا من انتزاع القرار الرقم ١٧٠١ الذي أنهى القتال على الأرض في وقت وقف عناصر “حزب الله” يراقبون الجيش الاسرائيلي وهو ينسحب على مضض من مرجعيون، مع أوامر مشددة بعدم التعرض له حتى لو تعرضوا لكل أنواع الاستفزازات والتحديات.
فالأولوية لدى نصر الله كانت اعادة شعبه الى الجنوب أولاً، ووقف الحرب ثانياً عند حدود مرجعيون، وتحاشي إخفاق كان يراه حتمياً بعدما امتنع بشار الأسد عن دخول الحرب على الرغم من طلب ملح ومباشر من ايران التي لم يكن بين قدراتها الا واحداً من أمرين: التدخل عبر الصواريخ البعيدة المدى وهو سلاح ذو حدين، والسعي مع أصدقائها للوصول الى وقف اطلاق النار، فمالت نحو الخيار الثاني.
الواضح أن هذا المشهد لن يعجب بيئة الممانعة، وستتمسك بشعار النصر الالهي زوراً أو حقاً، وقد حدث أن تسربت أجواء من الضاحية الجنوبية تفيد بأن نشر الجيش في الجنوب كان في حسابات “حزب الله” أكثر مرارة من وصول الاسرائيليين الى مرجعيون، اذ ان هذا التطور الشرعي الذي يأتي بعد عقود من المنع والقمع يعني حكماً أن “المقاومة الاسلامية” باتت خارج الصراع الذي تخوضه ايران باسم فلسطين لاستكمال سيطرتها على الهلال الممتد من أراضيها نحو البحر الأبيض المتوسط.
اليوم، يسأل المراقبون: ماذا تغير كي يقبل “حزب الله” بنشر الجيش على الحدود والانسحاب الى جنوب نهر الليطاني والتحول طوعاً الى قوة ضاربة لا دور لها ولا تأثير في مندرجات الصراع الايراني-الاسرائيلي من جهة، والصراع الايراني-العربي من جهة ثانية، والصراع الاسرائيلي-العربي من جهة ثالثة؟
ويكشف مصدر قريب من خط الممانعة أن واحداً من أكثر ما يرفضه “حزب الله” في المفاوضات التي يجريها آموس هوكشتاين، هو نشر الجيش اللبناني حتى لو كان متسلحاً بالهراوات وليس بالدبابات، فهو لا يثق به من جهة، ولا يقبل بأي دور له يمكن أن يلغي الحاجة الى دوره من جهة ثانية، ولا يقدر على ابتلاع فكرة الخروج من المعادلة العسكرية الوحيدة التي تمكنه من السيطرة على كل مفاصل الحكم والقرار في البلاد.
ويضيف: ان حزب الله ليس مستعداً لمنح الجيش أي دور معنوي أو مادي، مشيراً الى أن انتصاره في نهر البارد لم يكن خبراً ساراً في الضاحية الجنوبية وكل من سوريا وايران، وأن انتصاره في “فجر الجرود” لم يكن يستأهل التسليم بقدرة الجيش على حماية لبنان من “داعش” والتكفيريين وسواهم.
فالمطلوب أن يبقى الجيش خارج الأمن المركزي الشامل، لا بل خارج أي دور اقليمي فاعل، والاكتفاء بلعب دور الشرطي في الداخل الحريص على إحباط أي تحرك أو فورة أو ثورة يمكن أن تخلخل الكيان الذي يبنيه حجراً حجراً سواء بقوة السلاح أو قوة المال أو قوة المصادرة.
ويذهب مصدر ديبلوماسي غربي بعيداً الى حد القول: ان أحداً لا يريد تسليح الجيش لسببين أساسيين، الأول أميركي يتعلق بالصراع مع اسرائيل والثاني محلي يتعلق برفض “حزب الله” التنحي لمصلحة المؤسسات العسكرية الشرعية، نافياً وجود أي سبب آخر.
نسترجع هذه الأحداث ليس من باب التجني، بل من باب التذكير بأن فائض القوة ليس حقيقياً دائماً، وليس ممنوعاً من الانكسار حتماً، وليس الهياً حكماً، بل يمكن أن يصطدم بما ليس في الحسبان كما يحدث في الجنوب منذ ثمانية اشهر، بل يمكن أن يصطدم بما هو أقوى منه أو على الاقل بما هو أكثر قدرة على الحشد والتعبئة.
وهنا نسأل حسن نصر الله، هل يعرف أن كثرة الصراعات تؤدي دائماً الى كثرة الانكسارات، وأن كثرة الأعداء تؤدي دائماً الى كثرة الضحايا وكثرة الحصارات والعقوبات؟
وأكثر من ذلك لا يخفى على الكثيرين أن حملته على قبرص لا علاقة لها بدور اسرائيل في حرب غزة بل بدور “حزب الله” في الجزيرة التي تحتجز كوكبة من عملائه كانت تخطط لعمليات أمنية ضد مصالح اسرائيلية وبريطانية وأميركية.
ويكشف مصدر ديبلوماسي غربي أن ما فعله حسن نصر الله في الأمس لم يكن المرة الأولى، اذ سبقته الدعوة المبطنة لنقل النازحين السوريين بحراً من لبنان نحو أوروبا وتحديداً قبرص التي تعاني ما تعانيه من موجات اللجوء السوري الى أراضيها، مشيراً الى أنه رفع سقف تهديداته المباشرة هذه المرة بعدما رفضت سلطات الجزيرة اطلاق رجاله الذين وصفوا بأنهم من رجال النخبة. ويضيف: “ان اسرائيل ليست في حاجة الى قواعد خارج أراضيها لمهاجمة الأراضي اللبنانية أو السورية أو سواها، وان ما يريده نصر الله ليس ما أعلنه حكماً”.
ويتساءل المصدر: هل يعرف نصر الله أن أي اعتداء على قبرص سيكون بمثابة اللعب بين الألغام أو بمثابة المفتاح الذي يفلت وكر الدبابير، اضافة الى أنه سيخدم رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو ويعزز موقعه في الخارج خصوصاً بعد اعلان الاتحاد الأوروبي أن أي اعتداء على أي عضو فيه هو اعتداء عليه، متجاهلاً أن الأخير عزل نتنياهو وحوّله الى مجرم حرب ووضعه على لائحة المطلوبين ووقف الى جانب أهل غزة ساعياً الى اقامة دولة فلسطينية مستقلة؟
ويتابع: الواضح أن نصر الله يعرف كل ذلك، ولأنه يعرف فهو يريد أمرين: وقف حربٍ تبقي على سلطة “حماس” في غزة، ووقف أخرى يمكن أن تصل الى سلام يقضي على حلم “الجمهوريات الاسلامية” في لبنان والمنطقة وحلم الامبراطورية الفارسية الساعية الى العودة من التاريخ بأي ثمن وأي سلاح وأي شعب.
ويختم: ان مشكلة نصر الله تكمن في أنه يتصرف وفق حقيقتين: انه جندي حقيقي ملتزم في ولاية الفقيه يطيع ولا يعترض، وانه وصل الى مرحلة من الفوقية أعطته ما يوحي له بحجم يتجاوز كل الحدود، والى مرحلة من الثقة جعلت ايران تلجأ اليه كلما حاولت ترغيب خصم أو ترهيب آخر.
انطوني جعجع- لبنان الكبير