ثمّة فكرة يُحضّرُ لها في الكواليس: خبطة نهاية الأسبوع!

ثمّة فكرة يُحضّرُ لها في الكواليس.

زمانُها محدّدٌ بنهاية هذا الأسبوع.

مكانُها المُزمع في بكركي.

أهميّتها في مجرّد حصولها. إذا حصلت.

مشكلتها الأساسية أنّ المعنيّين بها عادوا ويعودون أكثر من 30 سنة إلى الوراء.

تفاصيلها تكشف ما يعرفه كثيرون. وما يكتمه الجميع بداعي المحظور الجماعي.

************************

يزور لبنان نهاية هذا الأسبوع أمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين.

موقع الرجل يُعادل منصب رئيس حكومة. لذلك ستقتصر لقاءاته على ما يوازيه.

علماً أنّ الزيارة مشوبة أصلاً بكونها لا تأتي تلبيةً لدعوة من الحكومة اللبنانية، ولا من الكنائس اللبنانية المنضوية في شراكة كنسية مع روما، بل بدعوة من منظمة دولية خاصة (فرسان مالطا) تختلط فيها الخيريّات بغيرها، والسماويّات بسواها.

وهو ما أثار لغطاً في روما نفسها قبل تحديد الزيارة. وهو ما قد يستمرّ في بيروت خلالها وبعدها.

لكنّ المعلومات أنّ الرجل مدرك لحدود إمكانات الفاتيكان. ومدركٌ أكثر لهوامش ما يسمح به المأزق اللبناني، خصوصاً في ظلّ اصطفافات وتبعيّات زعماء “رعايا” روما في بيروت. غير أنّ ذلك لم يمنع البعض في بكركي من التفكير، على هامش المناسبة، بالتحضير لخطوة – خبطة!

انطلقت الفكرة من هذا الانطباع السائد بأنّ الفاتيكان يتعاطى مع لبنان كلّه اليوم، تماماً كما تعاطى معه الكرسي الرسوليّ مطلع التسعينيات. يوم سقط بالكامل تحت الجزمة السوريّة. يومها أدرك يوحنّا بولس الثاني أنّ البلد محتلّ، جغرافيّاً ومؤسّساتيّاً وعسكريّاً.

جواب روما على التّحدّي اللبنانيّ

فقرّر قداسته بعد استطلاعات ودراسة أنّ جواب روما على التحدّي اللبناني يجب أن يكون على ثلاثة خطوط:

1- خطوات ومبادرات لإعطاء جرعة ثقة للمسيحيين في لبنان. على الأقلّ كي لا يستكملوا نزيف هجرتهم الأخير.

2- قنوات جانبيّة واتّصالات مع الشركاء المسلمين في الوطن، لنسج “شبكة أمان” ميثاقية بشكل كامن، تكون حاضرة لحظة فرصة التغيير.

3- سعي مع القوّة العظمى إلى عدم استسهال إزالة لبنان عن خارطة الشرعية الدولية، كما كان ينظّر البعض يومها في إسرائيل لإعطاء لبنان رسميّاً للأسد مقابل السلام.

بدأ التنفيذ الفاتيكانيّ آنذاك عبر سلسلة طويلة من أفعال وأحداث، بدت وكأنّها متفرّقة. لكنّها شكّلت فعليّاً سلسلة مترابطة في سياق رؤية روما لإنقاذ لبنان.

إذ لم تكن مصادفةً تلك اللائحة الطويلة من “التقديسات” الفاتيكانيّة للبنان: إعلان الكبوشي مكرّماً سنة 1992. تطويب الحرديني أيار 1998. تقديس رفقا حزيران 2001 (بعد أشهر على نداء بكركي الشهير). إعلان بطولة فضائل الأخ إسطفان نعمة في تشرين الثاني 2001. وتقديس الحرديني في أيار 2004 (قبل أشهر من بدايات ثورة الاستقلال الثاني خريف ذلك العام) .

على الصعيد الكنسيّ العامّ، رافق البابا البولونيّ المقاوم تلك “الإلهيّات” بإجراءات أكثر التصاقاً بالأرض: الدعوة، للمرّة الأولى في تاريخ الكنيسة، إلى سينودس خاصّ ببلد واحد هو لبنان، سنة 1991 (فور إحكام الوصاية السورية الكاملة). ثمّ إصدار “وثيقة الخطوط العريضة” سنة 1993 (بعد مهزلة انتخابات 1992). ثمّ انعقاد السينودس بعد عامين من التحضيرات في خريف 1995، وصدور ندائه الأخير بوجه الوصاية. وصولاً إلى الزيارة المفصليّة لقداسته للبنان في أيار 1997.

خطوات “قديمة”… بوجه احتلال جديد

كان كلّ ذلك يُحاك بهدوء، وبشكل متزامن مع خطوات تنسيقية بين روما وقريطم. فبات رفيق الحريري الزعيم السياسي صاحب الرقم القياسي في عدد لقاءاته بقداسته.

أعوام من العمل الصامت الدؤوب، حتى كان ما كان من دمٍ وتحرير واستقلال ثانٍ.

شيء من هذه النمطيّة يظهر في خطوات الفاتيكان الأخيرة تجاه لبنان، الواقع اليوم تحت “احتلاله” الجديد:

طوباوية البطريرك الدويهي. مثلُها للبطريرك الحويّك مؤسّس لبنان الكبير. والمفاجأة أكثر طوباوية ثالثة للزعيم الماروني اللبناني يوسف كرم.

إضافة إلى خطوة قد تكون الأهمّ، ألا وهي تعيين الأب ميشال جلخ، الأسقف لاحقاً، أمينَ سرّ لمجمع الكنائس الشرقية. وهي خطوة رأى فيها كثيرون علامة من العلامات المضيئة للكنيسة ولبنان… كلّها محاولات لإعادة الثقة إلى المسيحيين، ولو بواسطة العناية الإلهية، بعد اليأس من القيادات الزمنيّة.

إزاء زيارات سلفستريني وزملائه الكرادلة في “الزمن السوريّ”، تحضرُ في “الزمن البائس” الراهن زياراتُ بارولين وكودجيروتي وغالاغر، أكبر ثلاثة مسؤولين في روما بعد البابا فرنسيس. وهو من كان أعلن نيّته زيارة لبنان، على غرار القدّيس البولونيّ، قبل أن يُجهضها تصرّفٌ أرعن من مقرٍّ لبنانيٍ ما، ببيان خارج عن أصول روما ودبلوماسيّتها. فطارت الزيارة وحلّ الفراغ.

حتى دوليّاً، يبدو أنّ روما تحاول تكرار “رؤية يوحنّا بولس الثاني” ذاتها حيال لبنان، عبر تحرّكها المتجدّد المُستعاد، من شيراك يومها إلى ماكرون اليوم. ومن إدارة دبليو بوش سابقاً، “المولود ثانية” بحسب إيمانه الإنجيليّ، إلى إدارة بايدن الكاثوليكي راهناً.

لكن ماذا ينقص؟

لكنّ أمرين اثنين أساسيَّين ينقصان في المشهد الفاتيكانيّ المستحضر:

– أوّلاً لا رفيق الحريري في بيروت. أي لا من يحملُ في جيبه أرقام الهاتف الشخصي لزعماء واشنطن وموسكو وكلّ العالم. و”يعمل” لديه، بصفة “كاسحة ألغام”، جاك شيراك خليفة نابوليون شخصيّاً.

– وثانياً، لا ذراع سياسياً لبكركي اليوم، كما أنجز البطريرك صفير بعد نداء أيلول. وكما حفر بإبرتها جبل “قصر المهاجرين”، الذي لم يكن يعرف أين يقع، حتى وقع عن صدر لبنان وأزاحه عنه.

وسط هذا السياق المتكرّر، بمتمّماته ونواقصه، خطرت للبعض في بكركي فكرة خطوة – خبطة: ماذا لو نظّمنا على هامش زيارة الرجل الثاني في دولة الفاتيكان، لقاء في الصرح الماروني، ودعونا إليه كلَّ القيادات بلا استثناء، وفي كواليس اللقاء، رتّبنا قمّة سداسية: الكاردينال والبطريرك وأقطاب الموارنة الجدد القدامى: جعجع وفرنجيّة وباسيل والجميّل؟!

أحد الذين عُرضت عليهم الفكرة، ردّ ساخراً: لا بدّ حتماً من المحاولة. فبعد فتح ملفّ تطويب يوسف كرم، لا يمكن لأحد أن يستبعد بعد عقود أو قرن تطويب زعمائنا الحاليّين!

لكنّ المشكلة في كيفية تصرّف هؤلاء، وفي مقاربتهم الفكرة ومضمونها ونتائجها المرجوّة.

أين يقفون اليوم من محاولة روما العودة بهم وبنا، ثلاثين سنة ونيّف إلى الوراء؟!

محاولة الإجابة عن الأربعة غداً.

جان عزيز- اساس

مقالات ذات صلة