الغزاويون ينتفضون: نريد استعادة فلسطين وليس استنساخ ايران…“حماس” ماذا فعلتِ بنا؟
هذا ما يتفق عليه المراقبون والمحللون استناداً أولاً الى الأصوات التي بدأت تخرج علناً من غزة محملة اياها مسؤولية ما يجري في القطاع المهدد بالسقوط كاملاً ومجدداً في قبضة الاحتلال الاسرائيلي والعودة الى ما قبل “الاستقلال” في العام ٢٠٠٥، واستناداً ثانياً الى الواقع العسكري الذي يهدد بتفجير “كربلاء سنية” هذه المرة مع وصول الجيش الاسرائيلي الى آخر معاقل يحيى السنوار في رفح.
..وتذهب هذه الأصوات في عصيانها بعيداً الى حد القول ان فلسطينيي غزة يريدون استعادة فلسطين وليس استنساخ ايران، وانهم يريدون الانصهار في الاسلام المعتدل وليس في اسلام “الاخوان المسلمين”، وانهم يريدون أن يكونوا جزءاً من القومية العربية وليس القومية الفارسية.
وأكثر من ذلك، يتردد في الكثير من الأوساط الفلسطينية أن حركة “حماس” باتت بين نارين الآن، نار الدبابات الاسرائيلية من جهة، ونار المدنيين الناقمين الذين باتوا من جهة أخرى أكثر جرأة على تنفيس غضبهم، وأقرب الى السلطة الفلسطينية وخياراتها منه الى المقاومات المسلحة، وأقرب الى قبول التطبيع العربي مع اسرائيل منه الى العداء الذي لا أفق له ولا رجاء منه، وأقرب الى حل الدولتين بمن حضر منه الى وطن بلا حدود ولا سقف.
ويقول مصدر فلسطيني خرج من غزة في الأسابيع الأولى من الحرب، ان “حماس” ارتكبت في “السابع من أكتوبر” الخطأ نفسه الذي ارتكبه حسن نصر الله عشية حرب تموز في العام ٢٠٠٦، مع فارق وحيد وهو أن من يدير اسرائيل اليوم هو غير من أدارها قبل ١٨ عاماً، وأن العالم اليوم هو غير العالم الذي تمكن في تلك الحرب من إخمادها سريعاً عبر انتزاع القرار ١٧٠١ بطلب ضمني من نصر الله نفسه.
وما يضاف الى رأي المصدر نفسه أن “حماس” ارتكبت أيضاً الخطأ نفسه الذي ارتكبه نصر الله، وذلك عندما ألقت الأولى بيضها في سلة “الاخوان المسلمين” المتماهين مع طهران والمتباينين مع معظم العرب، وعندما انصهر الثاني تماماً في العقيدة الايرانية ايماناً والتزاماً، ما دفع العرب الى التعامل مع “اسلام حماس” على أنه اسلام “غريب وغير مقبول” والتعامل مع “اسلام حزب الله” على أنه اسلام “استفزازي وغير عربي”.
وما يضاف أيضاً أن الغزاويين، تماماً كأهل الجنوب، شعروا أنهم تحولوا الى “متراس” ايراني على حدود الدولة العربية أكثر منه جبهة عربية يديرها عرب أو فلسطينيون شرعيون، مع فارق وحيد وهو أن الجنوب لا يزال قطعة من دولة قائمة ولو في الحد الأدنى، في حين بدت غزة كياناً ملتبساً لا يشكل جزءاً من دولة قائمة ولا يشكل مشروع دولة واعدة، وتحول شعبها الى شعب سُلخ من جذوره العربية أو الى شعب ضائع يحتاج الى من يبحث عنه.
وقد يكون في هذا المشهد بعض المبالغة، لكن ما يصدر من خيم غزة يؤكد أن “المقاومة الاسلامية الفلسطينية” في الداخل والخارج ليست أفضل حالاً من بنيامين نتنياهو في الداخل والخارج أيضاً، مع فارق وحيد وهو أن رئيس وزراء اسرائيل يبحث عن نصر ممكن يحتاج اليه في شدة، وأن “حماس” تبحث عن هدنة بأي ثمن تجنبها هزيمة محتملة.
ويعلق المصدر الفلسطيني الخارج من غزة، أن “حماس” لم تسعَ بعد الانقلاب على حركة “فتح” في العام ٢٠٠٧ الى بناء دولة، رافضاً ذريعة الحصار المفروض على القطاع من البر والبحر، قائلاً: “اذا كان ذلك صحيحاً فكيف تمكنوا من نقل آلاف الصواريخ الايرانية الصنع الى ترساناتهم؟ ومن أين جلبوا المواد الضرورية لتصنيع الصواريخ والمسيرات والقاذفات المضادة للدروع؟ ومن أين جاؤوا بالمال لبناء أكثر من ستين مشفى في منطقة توازي في حجمها ثلث مساحة لبنان؟ وكيف تمكنوا من بناء شبكة أنفاق هائلة تحت الأرض وصل بعضها الى مصر عبر صحراء سيناء؟ وكيف تمكن المئات من رجالهم من الخروج نحو معسكرات تدريب خاصة في كل من لبنان وايران في نوع خاص؟ وكيف تمكن رئيس مكتبهم السياسي اسماعيل هنية من مغادرة غزة نحو اقامة فضفاضة في الدوحة؟”.
وليس في ما قاله المصدر ما نفته “حماس” التي أقرت بتراجع شعبيتها بعد “طوفان الأقصى”، ساعية وبدعم من “حزب الله”، الى إبرام أي اتفاق مع اسرائيل يفرمل الحرب حيث هي الآن، ويمنح حسن نصر الله الفرصة التي ينتظرها لوقف النزيف الذي يتعرض له رجاله في الجنوب، والعودة الى معاقله في الداخل لاعادة ترتيب أموره لدى بيئته الضيقة أولاً ومجتمعه الأوسع ثانياً.
انها في اختصار حال “حماس” التي قضت على أي بيئة قد تفكر أو تطمح الى احتضان حركة “الاخوان المسلمين” التي خاضت أولى تجاربها العسكرية المباشرة مع إسرائيل مكبدة شعبها أكثر من مئة ألف بين قتيل وجريح، ومدمرة في شكل شبه كامل أول كيان فلسطيني يتحرر من الاحتلال، وانها أيضاً حال “حزب الله” الذي يمكن أن يقضي على الأنموذج الايراني في أي بيئة عربية خصبة أو هشة.
ويتفق الرأي العام الاقليمي والدولي على اأن ما فعلته “حماس” حتى الآن هو أقصى ما يمكن أن تفعله قبل الوصول الى نقطة الحسم ولم يبق في جعبتها سوى كوكبة من الرهائن الدروع، وأن ما فعله “حزب الله” هو أقصى ما تسمح به ايران وتحذر منه أميركا قبل الوصول الى حرب شاملة، مؤكدين على خط آخر أن اميركا والعالم باتا على اقتناع بأن نتنياهو لن يقبل بأقل من نصر كامل في غزة، وأن على نصر الله الاقرار بأن ما فعله في الجنوب لم ينقذ “حماس” ولم يعزز موقع ايران العالقة بين تهمتين خطيرتين: دعم خيار السلاح في الشرق الأوسط، والسعي الى اقتناء قنبلة نووية.
ويكشف مصدر ديبلوماسي غربي أن مهمة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين في بيروت هي اقناع “حزب الله” بأنه لا يزال يملك الفرصة لتجنب حرب قد تحول لبنان الى غزة ثانية، مشيراً الى أن “حماس” تراهن على معجزة لن تحدث، و”حزب الله” يراهن على حل سحري غير متوافر، في وقت يجب أن يكون الرهان على أمرين: الأول اسم الفائز الأميركي الذي سيخرج من صناديق الاقتراع الخريف المقبل، والثاني مهمة وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت الذي من المقرر أن يتوجه الى واشنطن قريباً وسط أجواء تضع الزيارة بين احتمالين: اما العودة من واشنطن لاسقاط نتنياهو الذي سبقه باسقاط مجلس الحرب، تماماً كما حاول أن يفعل الوزير المستقيل بيني غانتس، واما العودة الى جيشه بسلاح أميركي يحتاج اليه في حرب لبنان.
في الانتظار، ليست الأصوات الخارجة من غزة أصوات جرحى وندابين وحسب، بل أصوات عصاة وناقمين يسألون: ماذا فعلتِ بنا يا “حماس”، ماذا فعلتم أيها “الاخوان”؟ وليست الحرائق المندلعة على طرفي الجبهة اللبنانية مجرد نيران محصورة في المكان والزمان، بل أصوات تسأل نتنياهو عما ينتظر، وتسأل “حزب الله” عما يخبئ، اضافة الى احتقان متراكم لا يمكن منعه من الاتساع ما دامت الخراطيم مقفلة والاطفائي يتفرج من بعيد.
انطوني جعجع- لبنان الكبير