نصر االله وحيداً… فَقَدَ سِحَره وافتقد الشعب: ما عاد مقنعاً ولا متماسكاً ولا منطقياً؟؟

سؤالان جوهريان يراودان اللبنانيين منذ “طوفان الأقصى” حتى اليوم، هل كان “حزب الله” يتوقع هذا النوع من المواجهات الاستنزافية الطويلة؟ وهل كان يتوقع أن يصبح الجنوب قطعة من لبنان لا تجد من يبكي على ضحاياها في القسم الآخر من لبنان وكأن هناك لبنانان، لبنان للسلاح ولبنان للسلام أو شعبان شعب للقتال وشعب للحياد؟

الجواب طبعاً لا، فلا هو توقع الأولى ولا هو توقع الثانية حتى كأنه في السنوات التي أعقبت “حرب تموز” في العام ٢٠٠٦ بات يعيش في عالم آخر ويتعامل مع شعب آخر، معتقداً أنه وصل الى مرحلة من القوة غيّرت وجه لبنان وتاريخه، وأنه دجن شعباً لم يعد يجرؤ على الاعتراض أو لم يعد يقوى على العصيان.

انه التاريخ الذي يعيد نفسه، أي التاريخ الذي كان في الأمس يتفرج على الراجمات السورية وهي تقصف المناطق المسيحية، ويتفرج اليوم على الطائرات الاسرائيلية وهي تقصف المناطق الشيعية.

خطيئة “حزب الله” أنه يظن أن التاريخ في لبنان بدأ معه ولا يكتمل الا به، متجاهلاً أن مناطق أخرى في لبنان ذاقت ما ذاقه ويذوقه، وأن طوائف أخرى عانت ما عاناه ويعانيه سواء في الشمال أو بيروت أو جبل لبنان، وأن أحداً لم يرحم أحداً، وأن أحداً لم يعتذر لأحد.

وخطيئته أيضاً أنه لا يبالي بما يقوله الناس أو ما يعانيه الناس أو ما يشتبهون به، معتبراً أنه وصل الى مرحلة من الفوقية تسمح له بمحاربة من يشاء ومهادنة من يشاء ومحاكمة من يشاء وتبرئة من يشاء، وأن يتملص من أي تهمة حتى لو كانت ملتصقة به حتى العظام، وفي مقدم ذلك اغتيال رفيق الحريري وانفجار مرفأ بيروت في ذاك “الرابع من آب”.

عشية “حرب تموز”، قال حسن نصر الله بعد اختطاف الجنديين ان اسرائيل لن تجرؤ على دخول الحرب، واصفاً رئيس وزرائها ايهودا اولمرت بالغبي، وبعد “السابع من تشرين”، ظن أن ما يملكه من سلاح يتغنى به منذ سنوات، يكفي لردع اسرائيل أو لجمها أو حشرها في المقاعد الخلفية، ليكتشف بعد أيام قليلة أمرين: الأول أن اسرائيل كانت تعرف رجاله وترصدهم عن آخرهم، وأن بنيامين نتنياهو ليس غبياً كما اولمرت، وأن الحكومة اليمينية الحالية لا تخشى الحروب الطويلة ولا تخشى الخسائر الكبيرة ولا تحسب حساباً لأي رأي عام أو لأي مرجع دولي مهاب حتى لو كانت الولايات المتحدة نفسها.

ثمانية أشهر مضت على الحرب، وانتقلت “حماس” من شعار “غزة ستكون مقبرة الغزاة” الى شعار “أوقفوا الحرب بأي ثمن”، وانتقل “حزب الله” من “شهداء على طريق القدس” الى شعار “أوقفوا الحرب في غزة كي نوقف الحرب في الجنوب”.

انه الاقرار بما يشبه الاخفاق في غزة بعد وصول الدبابات الاسرائيلية الى وسط رفح، والاقرار بالخيبة في الجنوب بعدما بات “حزب الله” عالقاً في ساحة مكشوفة ومخروقة يسقط فيها قادته الواحد بعد الآخر في حرب لم تبدأ بعد.

وأكثر من ذلك، بات العالم مقتنعاً بأن نتنياهو لن يوقف الحرب لا قسراً ولا عفواً، وأن “حماس” في حالة “احتضار” في مكان وفي حالة انعزال في مكان آخر بعدما تجاهلت المبادرة الأميركية الأخيرة، وأن “حزب الله” في حالة ارتباك في مكان وفي حالة صدمة في مكان آخر بعدما أدرك متأخراً أنه كان مكشوفاً منذ اليوم الأول من تقنيات اسرائيل وعملائها في وقت كان هو يتلهى بوضع اليد على لبنان قطعة تلو قطعة والهيمنة على شعبه طائفة بعد طائفة.

وقد يسأل سائل وماذا بعد؟

الجواب الوحيد حتى الساعة أن الجميع يريد وقف الحرب باستثناء نتنياهو المقتنع بأنه بات قاب قوسين أو أدنى من حسم معركة مع “حماس” قد تقوده اما الى حرب حاسمة مع “حزب الله” وعرابه الايراني واما الى تسوية مع العرب تفضي الى دولة فلسطينية اسمية لا أنياب لها ولا مخالب.

وقد يسأل سائل آخر، وهل الحرب مع “حزب الله” نزهة مضمونة النتائج؟ والجواب على الأرض طبعاً لا، لكن الجواب في النوايا أن اسرائيل، حتى لو أزالت خطر “حماس”، لن تهنأ ما دامت لم تشذب أظافر ايران من جهة ولم تسحب فتيل الجنوب من جهة ثانية، يساعدها في ذلك أن ايران وصلت الى مرحلة من التحديات لم تعد محمية من أحد، وأن “حزب الله” وصل الى حد تنصيب نفسه حامي المسلمين من لبنان حتى البوسنة مثيراً لدى العام العربي والدولي تكتلاً متراكماً ينتظر ضوءاً أخضر من أميركا قبل مباركة أي حرب على “المقاومة الاسلامية” في لبنان.

وفي عودة الى السؤالين الأولين، يتبين أن حسن نصر الله أثبت في هذه الحرب أنه فقد سحره فما عاد مقنعاً ولا متماسكاً ولا منطقياً، وأن كل ما يحاول فعله هو امتصاص النقمة في بيئته من خلال تعويضات مالية من جيوب الناس وليس من جيوب ايران، واقناع نفسه قبل الآخرين بأن النصر الالهي الآخر قادم لا محالة.

انه عصر المكابرات التي لا يتخلى عنها أحد، وعصر الأخطاء التي لا يعترف بها أحد، وعصر المغامرات التي لا يتجنبها أحد، وفي معنى آخر، انه عصر “المفضوح” الذي يخبر الناس أنه تعرض للخيانة أو للطعن في الظهر، أو عصر السائق الذي يخبر الناس أن آليته سقطت في الوادي لا لتهور من قبله بل لعطل في المكابح.

لم يحدث في تاريخ الحروب اللبنانية أن تعج منطقة في لبنان بالجنازات ومجالس العزاء والحرائق والدمار، وتعج مناطق أخرى مجاورة وبعيدة برواد البحر والملاهي والمهرجانات، وكأننا في وطنين أو كأننا من عالمين، فهل أيقن حسن نصر الله أن ما كان له في “حرب تموز” لم يعد له في هذه الحرب، وأن من كان يفتح لنازحيه الأيدي والأبواب أخفى مفاتيحه أو رماها في البحر، وأن من كان يصفق له رفع يديه أو وضعهما في جيبه، ومن كان يصدق شعاراته أعاد حساباته أو نأى بنفسه عنها، وأن من كان يراهن على سلاحه أسقط رهانه، ومن كان يؤمن بدوره الوطني المحض أسقط قناعاته، وأن من كان يظنه قوة الهية لا تقهر اكتشف أنه مجرد قوة من طينة البشر؟

إن كان حسن نصر الله لا يصدق كل هذا، فليسأل لماذا لم تعد الشاشات تتسابق لنقل اطلالاته ولم يعد الرأي العام يتأثر بشعاراته، ولماذا يجد “حزب الله” نفسه وحيداً بين بيئة بالغ في استنزافها وشعب أمعن في قهره وفي بلد أمعن في الغائه؟

انطوني جعجع- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة