“حماس” و”حزب الله” وإسرائيل في رمال غزة ووحول لبنان: من يملك مفاتيح وقف التدهور الكبير ؟
لم تؤدّ استقالة عضوي مجلس الحرب الإسرائيلي بني غانتس وغادي أيزنكوت من منصبيهما إلى تقويض حكومة بنيامين نتنياهو التي تقوم أساساً على تحالف بين كتلة الليكود ومجموعة أحزاب يمينية صغيرة متطرفة. فقد حافظ الائتلاف الحكومي الذي يقوده نتنياهو على دعم 64 عضواً في الكنيست الإسرائيلي، ما يمنع سقوط الحكومة وإن كان يضعفها سياسياً. لكن العامل الأهم الذي يمنع سقوط هذه الحكومة حتى الآن هو استمرار الحرب في غزة، والتصعيد الكبير الذي يتدرج صعوداً على جبهة الشمال مع “حزب الله”، وانعدام فرص التوصل إلى جسر الهوة بين موقفي الطرفين المتصارعين على مسرح قطاع غزة. والحقيقة أن كلاً من إسرائيل وحركة “حماس” تبدو كأنها عالقة فوق شجرة لا تجد سبيلاً للنزول عنها. والشجرة ترمز إلى الخطوط الحمر التي يتمسكان بها من أجل إنهاء الحرب.
نحن نزعم أن مصدر المشكلة هو الطرفان، كونهما وضعا سقوفاً عالية لإنهاء الحرب. كلاهما لا يريدان إنهاء الحرب، وللدلالة فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أفشل كل المساعي ومشاريع التسوية حتى الموقتة التي عرضت بعد هدنة شهر تشرين الثاني – نوفمبر الماضي، لأنه رفض أن يربط مطلق أي عملية لتبادل الرهائن والأسرى بإنهاء الحرب، والانسحاب. ومن ناحيتها رفضت حركة “حماس” ومعها حركة “الجهاد الإسلامي” أي تسوية لا تشمل إنهاء الحرب والانسحاب الكامل من قطاع غزة. ولعل الدليل إلى ذلك المقترح الأميركي الأخير الذي قدمه الرئيس جو بايدن إلى الطرفين، وتمكنه من تأمين دعم دولي له، لا سيما في مجلس الأمن، فتعرض للتهشيم بسلسلة تعديلات تقدمت بها حركة “حماس” وهي تعرف تماماً أن الطرف الإسرائيلي لن يقبل بها مهما صار، لأنه يعتبر أنها بمثابة الاعتراف بالهزيمة التامة في حربه في غزة. وفي المقابل، مثّل رفض إسرائيل الالتزام بإنهاء الحرب في نهاية المراحل الثلاث المقترحة منصة للفصائل الفلسطينية لكي تهشم المقترح وتغرقه بالتعديلات، لأنها تعتبر أن ما يريده الإسرائيليون هو الاستسلام، وهذا ما ترفضه كل من “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وخلفهما إيران التي تأمل من خلال تحريكها للساحات التي تتحرك من خلالها، من العراق إلى سوريا فلبنان واليمن، أن تستثمر عنصر الوقت الذي ترى أنه لا يصبّ في مصلحة الإسرائيليين.
لنفصل أكثر، فإن شرط “حماس” لقبول تسوية أميركية هو إنهاء الحرب الإسرائيلية تماماً، والانسحاب من قطاع غزة. هذا بكل بساطة يعني هزيمة إسرائيلية واضحة. والهزيمة هذه لو حصلت بهذا الشكل فمعناها أن إسرائيل ستدخل في أزمة سياسية، أمنية، أيديولوجية، ووجودية عميقة ستحتاج إلى أعوام طويلة لكي تخرج منها. ومعنى هذا بالملموس، انه رغم تدمير قطاع غزة كما حصل في الأشهر الثمانية من الحرب، فإن غزة ستعود بعد خمس إلى عشر سنوات منصة تهدد أمن إسرائيل الوجودي. والمسألة هنا لا تتعلق بشخص بنيامين نتنياهو، ولا بمستقبله السياسي، بل بقراءة الدولة العميقة في إسرائيل إلى ما هو أبعد من مصير إسرائيل نفسها إذا ما خرجت من الحرب الحالية مهزومة ولو تكتيكياً. والاحتمال كارثي وعواقبه خطيرة للغاية بالنسبة إلى مفهوم ما يسمى “الوطن القومي اليهودي الآمن”. ومن هنا وبسبب ضخامة عملية “طوفان الأقصى”، فإن موافقة إسرائيل على تسوية تؤدي إلى وقف نهائي لإطلاق النار مستبعد نظراً إلى اختلاط البعد الأمني بالسياسي بالأيديولوجي في آن معاً.
بالنسبة إلى حركة “حماس” والفصائل الأخرى، فإن تسليم ورقة الرهائن الإسرائيليين من دون تأمين إنهاء الحرب، وترك الإسرائيليين يواصلون حرباً منخفضة الحدة في أرجاء القطاع، أو تسليم السلاح والخروج من غزة هو بمثابة الاستسلام الذي ترى “حماس” أنها غير مضطرة للخضوع له نظراً إلى اعتقاد الفصائل أنها قادرة على مواصلة حرب عصابات في كل أنجاء القطاع ضد الإسرائيليين العاجزين عن احتلال القطاع بالكامل لحاجة هذا الأمر إلى قوات إضافية لا تحتمل تل أبيب زجها في هذه المغامرة. بهذا المعنى ترى “حماس” أن من مصلحتها إغراق جيش إسرائيل في رمال غزة المتحركة، وإلحاق الهزيمة بها بالاعتماد على عنصري الوقت وحرب العصابات غير النظامية.
لكن إسرائيل التي تحتاج إلى نصر واضح في حرب غزة قبل أن توقف الحرب بشكلها الحالي، تبحث عن “جائزة” ثمينة كرأس قائد “حماس” في غزة يحيى السنوار والقائد العسكري محمد ضيف. وتحتاج إسرائيل إلى نزع سلاح “حماس” وإخراج أهم قادتها من غزة أو قتلهم أو اعتقالهم. أقل من ذلك لن يكون بمستطاع تل أبيب أن توقف حرباً بهذه الخطورة.
هنا يدخل عامل آخر قد يكون بمثابة السُلّم الذي سيمكّن الطرفين من النزول عن الشجرة، لبنان. فتصاعد المواجهات بين إسرائيل و”حزب الله” قد يبلغ حافة الحرب الشاملة، من دون السقوط في دوامتها الدموية. لكن يمكن لحرب محدودة سبق للأميركيين أن حذروا من أن تحول الأنظار عن حرب غزة المستمرة بعنف منخفض لا يثير انتباه الرأي العام العالمي، أن تفتح ملف أمن الحدود الشمالية لإسرائيل على مصراعيه. فأمن الحدود الشمالية لا يقل أهمية عن أمن محيط غزة، أو أمن الضفة الغربية. إسرائيل محاصرة بالنار وخياراتها محدودة للغاية. وقد لا يكون أمامها من خيار سوى مواصلة الحرب في الشمال بمستوى أعلى من العنف والكثافة، وفي غزة بمستوى منخفض من العنف والكثافة.
من المهم إدراك حقيقة أن إسرائيل و”حماس” غير مستعدتين لإنجاز اتفاق ينهي الحرب. و”حزب الله” الذي يسير وفق الأجندة الإيرانية الأوسع لا يملك مفاتيح وقف التدهور الكبير على الحدود مع إسرائيل. ولكن قد يكون اشتعال حرب واسعة بين إسرائيل و”حزب الله” مدخلاً لإنهاء حرب غزة بذريعة منع انفجار الإقليم بأسره، والذهاب نحو تسوية لا غالب ولا مغلوب في غزة ولبنان في آن واحد.
ما تقدم يشير إلى أن معضلة حرب غزة لا حل لها في المدى المنظور، والخيار الوحيد المتاح حالياً هو مواصلة الحرب هناك، وربما إشعال حرب أوسع في لبنان.
علي حماده- النهار العربي