في لحظة سياسية مليئة بالفراغ: الحزب والحوار تحت سقف “الصّيغة الهشّة”
في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالمقترح الأميركي لوقف إطلاق النار في غزة، تنشغل الساحة الداخلية بمبادرات بالجملة. زخم المبادرات الذي لا يتوقّف يعمل على قاعدة أنّ الطبيعة لا تحتمل الفراغ. يحصل هذا في لحظة سياسية مليئة بالفراغ، وقابلة لاستيعاب كلّ شيء. وهذه اللحظة على وجه التعيين يتداخل فيها الدستوري مع “محاولات” لإدخال أعراف تلقى معارضات متنوّعة. والأسوأ أنّ هذه الأعراف من طبيعة باطنية وتندرج تحت عناوين “الجوار” و”التشاور”.
تصديع الدّستور
يجري سيل من الكلام عن مبادرات سياسية تنطلق ذات يمين وذات يسار بالتزامن مع جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في المنطقة للضغط باتجاه تسوية إقليمية. وفي المُعلن أنّ تواصل القوى السياسية مع بعضها في حراك يمهّد للتسوية الداخلية “الآتية حتماً على أنقاض الحرب في غزة وفي جنوب لبنان”، على ما يقول مصدر دبلوماسي عربي لـ “أساس”.
شروط تعيق طريق الحوار
يقول مصدر دبلوماسي عربي لـ”أساس” إنّ القوات اللبنانية تعارض الحوار من أجل رئاسة الجمهورية كي لا يتحوّل ذلك إلى عرف. وللذاكرة، فإنّ التحفّظ على اتفاق الدوحة لم يكن فقط داخلياً عبر القوات اللبنانية، بل أثبتت الأيام. ولا سيما مع عمل الخماسية، أنّ المملكة العربية السعودية لها تحفّظها أيضاً على ما جرى لكونه خرقاً لاتفاق الطائف.
غير أنّ حراك الداخل فيه ما يكفي من إشكاليّات ظاهرها شكليّ وباطنها يتّصل بعمق الصيغة والدستور. وهذا على وجه التحديد ما يطرح أسئلة من نوع:
ـ هل يتحوّل أيّ حوار أو تشاور إلى عرف لانتخاب رئيس للجمهورية؟
ـ هل يعطي هذا العرف رئيس المجلس مفتاح بعبدا؟ وأيّ ثمن سياسي يمكن للحزب أن يحصل عليه في التسوية المقبلة؟
هذه التساؤلات على وجه الدقّة تخضع للنقاش في المجالس السياسية الداخلية. وربّما العنوان الأهمّ لكلّ نقاش أنّ صيغة لبنان هشّة. وبقدر هشاشتها تتمتّع بصلابةٍ مصدرُها انعقاد الأوضاع الداخلية على أخرى خارجية. لذلك ما هي المخارج المطروحة في الحوار قبل أو بعد الرئاسة؟ ومجرّد انخراط قوى سياسية في نوع كهذا من الممارسة السياسية، فلا يعني هذا إلا تصديع الدستور وما نصّ عليه في وثيقة الوفاق الوطني (الطائف).
بحسب المصدر فإنّ حزب القوات اللبنانية منفتح على كلّ شيء، ومع حوارات ثنائية أو ثلاثية “شرط ألّا يكون حواراً جامعاً يرأسه رئيس مجلس النواب” كي لا يصبح عرفاً، فيما يطلب حزب الكتائب اللبنانية ضمانات من الثنائي بأن يقود الحوار إلى انتخاب رئيس، وذلك تخوّفاً من أيّ تعطيل مستمرّ للنصاب. وفي ذلك يتقاطع مطلب الكتائب مع شروط الحوار التي اشترطها نبيه بري لجهة ضمان حصول جلسات مُكرّرة لانتخاب رئيس الجمهورية.
مصدر في اللجنة الخماسية يقول لـ”أساس” أنّ “القوات يمكن أن تقبل بدعوة أحد النواب إلى التشاور أو الحوار في مجلس النواب، حتى لو كان النائب من كتلة التنمية والتحرير. لأنه بذلك يصبح الاقتراح معللاَ في عمل المجلس”.
أمّا الحزب فله شروطه أيضاً، وكان قد عبّر عنها رئيس “كتلة الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد أمام الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، لجهة ضرورة إجراء الحوار برئاسة بري وعدم تقديم أيّ التزام بالبقاء في جلسة الانتخاب لأنّ المقاطعة حقّ دستوري. بل ذهب رعد بعيداً بالقول إنّ الحوار عُرف، والعرف أقوى من الدستور.
موقف النائب رعد “لم يأتِ من فراغ”، بل من كون الحزب مستعدّاً فقط لانتخاب مرشّحه سليمان فرنجية، “وأيّ كلام عن خيار ثالث لم يحِن وقته بعد”. فللحزب مطالب واضحة لضمانات يفتقدها في الصيغة الراهنة، “وهي شرعية الحزب وسلاحه” في دولة يفترض أنّ لها جيشاً نظامياً واحداً. لذلك الخلاف على الحوار ليس شكليّاً كما يبدو ظاهره، بل هو أعمق بكثير.
ضمانة الحوار أو حوار الضّمانة
في وعي الحزب السياسي أن لا تسوية في لبنان من دون ضمانة. وهي حتماً ضمانة تبدأ بفرض تشاور يضمن ملء الفراغ الرئاسي وتكون فيه للحزب الكلمة الفصل: أكان المرشّح سليمان فرنجية أو غيره.
في هذا السياق تحضر في المشهد السياسي وقائع حربية على الجبهة الجنوبية تظهر بطبيعتها حضور الحزب وتقدّمه على غيره في الحوار مع الدول المعنيّة بالشأن اللبناني. هكذا ستُترجم العناوين الأمنيّة في العهد الجديد. فقبل الرئيس حوار وتشاور حول هويّته، وبعده حوار أيضاً من طبيعة مجهولة سياسياً. لكنّ الغالب هذه المرّة هو أنّ الحوار في استراتيجية دفاعية هو مطلب خصوم الحزب، بالتوازي مع حاجة ملحّة له أيضاً. وحوار الضمانة “المُزمع” سيقوده الرئيس العتيد، وعلى قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”، بحسب مصادر “أساس”. وفي هذا السياق تتحدّث مصادر سياسية دبلوماسية لـ”أساس” عن سابقة العراق وشرعنة “الحشد الشعبي” في الدولة، بما يشي أنّ الحلّ قد يكون باستيعاب عناصر الحزب.
لكنّ ذلك يبدو بعيد المنال في لبنان نظراً لصيغته وتوازناته السياسية والديمغرافية، وإنّما ما هو ممكن هو إقرار استراتيجية دفاعية “تشرعن” دور الحزب وتكون الضمانة الشرعية له. من هذا المنطلق ستكون جولات الحوارات متعدّدة وعناوينها كبيرة. لكنّها لن تكون إلا تحت سقف الصيغة التي وصفها نائب الحزب علي فياض بأنّها هشّة، لكنّها قوية جداً أيضاً.
جوزفين ديب- اساس