إنزال “لودريانيّ” في بيروت ومعاييره من خارج الصندوق الاعتيادي: ساعة الصّفر

تنقل المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان في زيارته السادسة لبيروت بين المقرّات الرسمية وغير الرسمية، من السراي الحكومي صعوداً إلى معراب وسط صمت دفع الكثيرين للتنبّؤ بأفكاره وخطواته. تزامنت الزيارة مع حدثين:

1-إنزال النورماندي في 6 حزيران المقبل، وهو أكبر إنزال عسكري عبر البحر على اليابسة والبرّ.

2- مؤتمر “بروكسل الثامن”، واجتماعات المفوضية الأوروبية، حول مستقبل سوريا والمنطقة بغياب النظام السوري.

لم تتضمّن زيارة لودريان ولقاءاته في بيروت أمس وأمس الأول أيّة مبادرة معيّنة، أو حتى فكرة محدّدة بالذات، على عكس ما يتمّ تداوله محلّياً بشكل عشوائي وسلبي أحياناً.

تعتبر الزيارة طبيعية من حيث الشكل. فمنذ أن تسلّم جان إيف لودريان مهامّه، وموضوع زيارته لبنان قائم دائماً. هي محطّ جدل، لكنّ زمانها وموعد تنفيذها تحدّده الظروف المناسبة. تحمل في طيّاتها العديد من الأفكار والرؤى والمحاكاة السياسية المختلفة، أغلبها معروف لدى الجميع. لكن تحتاج جميعها إلى مزيد من ترياق الجوجلة، مع تشاور لتدوير الزوايا، إضافة إلى أمر الترتيب مع مختلف الأطراف.

يحتفظ هذا الحضور بمضمون مختلف. يسبق القمّة الفرنسية – الأميركية في النورماندي حيث سيكون الملفّ اللبناني على طاولة البحث مع مجموعة من الملفّات العالمية. بعد أن يرفع لودريان تقريره الاستشاري عن الزيارة إلى الرئاسة الفرنسية التي ستحمله بدورها إلى لقاء المباحثات والتسويات الدولية.

تطوّرات دولية تبشّر ببعض الإيجابيات أهمّها:

1- التنسيق الفرنسي الأميركي مع الاقتراب الأميركي من القناعة الفرنسية، وخاصة في ما يتعلّق بالجغرافيا اللبنانية، في وجوبية فصل الأمن عن السياسة، وأن يتمّ دعم الاستحقاقات السياسية، وأن تسخّر لخدمة الاستقرار الأمنيّ.

2- وقوع بايدن وإدارته في فكّ كمّاشة أميركية الصنع بمواجهة أزمات عالمية كبيرة متفرّقة، جعله يبحث عن إنجاز، ولو متوسّط الحجم وثانوياً عبر البوّابة اللبنانية، قبيل انصرافه إلى معركته الرئاسية، مع رغبة لبنانية مفادها أنّ انتخاب رئيس في عهد بايدن الديمقراطي أفضل بكثير من رئيس في عهد ترامب. وهو ما تفضّله قوى الممانعة والحزب تحديداً.

3- تريد فرنسا الاحتفاظ بوزناتها التاريخية في لبنان. لا تقبل بتراجع تأثيرها، سيما وهي تمرّ في فترة حسّاسة جداً على المستوى الدولي كُبّلت فيها سياستها الخارجية في كثير من العراقيل والمطبّات، من تراجعها الإفريقي إلى تخبّطها الأخير في كاليدونيا الجديدة وأقاليم ما وراء البحار.

4- إشارات إيجابية إيرانية إلى استمرار النظام الإيراني في نهجه المتّبع في السياسة الخارجية. خاصة تلك المتعلّقة بالمفاوضات النووية وترتيب مواقع ومناطق النفوذ الإقليمية. وتشكّل فترة الخمسين يوماً فترة ملائمة لتمرير أيّ خرق قبل اكتمال وإعادة تشكيل السلطة التنفيذية الإيرانية التي ستأخذ وقتها في الإقلاع الدبلوماسي من جديد على الرغم من الثوابت.

عدم وجود فكرة محدّدة

بنصيحة لبنانية ليس في خاطر فرنسا الدعوة إلى طاولة حوار فرنسية حالياً. الفكرة موجودة في السياسة دائماً وفي كلّ الأزمات. لكنّها مركونة جانباً حالياً في لبنان. فمن الممكن والمرجّح أن تكون في المستقبل، وليس بالضرورة في أن تكون فرنسية، ومن المرجّح أن تكون في بيروت أو في أيّ عاصمة قرار من عواصم الخماسية. يتبلور هذا القرار عبر التنسيق التامّ مع دول الخماسية وخاصة الأطراف العربية.

لودريان يصوّب الحراك

تعمل الإدارة الفرنسية على عدّة أمور:

1- إقناع الولايات المتحدة الأميركية بضرورة فصل الاستحقاق الرئاسي في لبنان عن كلّ الملفّات الإقليمية، وخاصة الحرب الدائرة في قطاع غزة. تحاول إقناعها أيضاً بوجوبية تمرير الانتخابات الرئاسية.

2- من المرجّح أن يطرح في هذه الزيارة إلزامية التفريق بين فكرة التشاور السياسية الطبيعية في لبنان وبصورة دائمة، وبين آلية النشاط التشريعي البرلماني المؤسّساتي. فالتشاور والتواصل السياسيّان أمر مطلوب بصورة دائمة بين جميع اللبنانيين، سواء الممثّلون في البرلمان وغير الممثّلين. لا يوجد فرق هنا بين الأفرقاء السياسيين التشريعيين والأفرقاء السياسيين الطبيعيين الممثّلين لكلّ البيوت السياسية. لذا يجب أن تجري هذه اللقاءات بشكل محايد وبالتساوي ودون أيّ فرق في سبيل تبادل وجهات النظر، ولا يرأسها أيّ طرف. تختلف في جوهرها عن النشاط التشريعي في البرلمان الذي يحكمه نظام داخلي مؤسّساتي مقونن له نطاقه الخاصّ.

تعتبرهذه الأوساط رئيس المجلس النيابي نبيه بري في مرحلة التشاور السياسي، رئيساً للغرفة التشريعية. هو في الوقت نفسه رئيس حزب سياسي في لبنان ورئيس كتلة برلمانية وازنة، وهو طرف لديه مرشّح رئاسي، لذا ليس محايداً ولا يمكنه أن يرأس التشاورات. إذ لا يحتاج هذا التلاقي إلى رئيس. تعمل الإدارة الفرنسية في الخماسية مجتمعة، ومن خلال المبعوث الرئاسي “لودريان”، على إسقاط أفكار من خارج الصندوق الاعتيادي. يسهل الوصول إلى مرحلة التشاورات عبر اتفاق على أن تتمّ الدعوة من قبل مجموعة من النواب بضمانة الخماسية، وافتتاحها بحضور المبعوث الرئاسي جان إيف لودريان والممثّلين عن الخماسية. تمهّد للانتقال إلى مرحلة فتح المجلس النيابي، والدعوة إلى جلسة انتخابية مفتوحة مع دورات متعدّدة. يقع على عاتق رئيس البرلمان بالحقّ الدستوري والطبيعي الإمرة البرلمانية وإدارة هذه الجلسات، حيث ينصّ الدستور على تمايزه وسموّه التشريعي عن بقيّة الأفرقاء.

يتمّ التركيز حالياً على إعادة تنظيم حراكية النشاط حول الأزمة الرئاسية فقط، من بوّابة المواصفات الملزمة. تجري الاستفادة من كلّ المؤشّرات والأحداث الإقليمية والدولية التي من الممكن أن تساعد وتسهّل، وتلك التي تدعم كلّ إمكانية لتحقيق البرامج المطلوبة وإيجاد الممرّ الجدّي الذي سيؤدّي إلى جلسات برلمانية انتخابية رئاسية بعد النجاح في مرحلة المشاورات.

قرّرت فرنسا القيام بإنزال “لودريانيّ”، بروحية الخماسية وإكسير طعم البيان الثلاثي الذي صدر في 21/9/2022 في نيويورك. يرمز إنزال النورماندي تاريخياً إلى نصر الحلفاء. يسمّى أيضاً باليوم “دي”، أي ساعة الصفر التي غيّرت مجرى الحرب، وحقّقت النصر. فهل تشكّل هذه الزيارة فرقاً وتكون عبرها بداية خرق إيجابي جديد؟ هل يتحقّق نصر الدولة اللبنانية عبر احترام دستورها وتحرير مؤسّساتها وسلطاتها من غلوّ الأمر الواقع؟

محي الدين الشحيمي- اساس

مقالات ذات صلة