جنبلاط يتموضع ويحسم الكباش الداخلي و«يعقلن» الخطوات الشعبوية «الهوجاء»!!
موقف النائب السابق، وليد جنبلاط، من المعركة في فلسطين وجنوب لبنان ليس تفصيلاً داخلياً أو إقليمياً. فجنبلاط، الذي لم تسعفه «أنتيناته» في الماضي لاستشراف ما بعد قرارات 5 أيار 2008 ولا مخاطر المؤامرة على سوريا وقوة الدولة في دمشق، قادته فطرته الأخلاقية والوطنية هذه المرّة، وموقف كمال جنبلاط التاريخي من المسألة الفلسطينية، إلى الاصطفاف في الجانب المضيء من التاريخ الإنساني. كان كافياً لوليد جنبلاط أن يفهم حجم الضربة التي تلقّتها إسرائيل والنفوذ الغربي في المنطقة، ليدرك حجم الانتقام وطول الحرب. ومع ذلك زاد ثباتاً، في وقتٍ اهتزت فيه قلوب آخرين.لم يقف جنبلاط «على الحياد» في الانقسام الداخلي اللبناني الحالي حيال المعركة في الجنوب، كما التزم الحياد بعد خروجه من 14 آذار. إنّما انحاز إلى المقاومة الفلسطينية في فلسطين والمقاومة اللبنانية في عملياتها ضدّ العدو الإسرائيلي لمؤازرة الفلسطينيين، معتبراً أن «حزب الله يدافع عن لبنان».
صحيح أن وقوف زعيم الدروز اللبنانيين إلى جانب الفلسطينيين يُعدّ أمراً واجباً وبديهيّاً، بعدما حسم الدروز في لبنان أمرهم بـ«الارتباط بالعروبة» ورفض «حلف الأقليات الإسرائيلي»، ولكن لتموضع وليد جنبلاط الأخير أهمية تبدأ من لبنان، ولا تنتهي في فلسطين.
أوّلاً، منذ الأيام الأولى للمعركة، تحرّك جنبلاط سريعاً على أكثر من جبهة، داخلياً لترتيب البيت الداخلي في الحزب وعلى الأرض لتبريد الرؤوس الحامية في الطائفة ممّن أثّرت فيهم سنوات التحريض. وترجم ذلك بوضع خطة مشتركة مع حزب الله وحركة أمل لإيواء النازحين في حال اندلاع حرب واسعة، ما أعطى رسائل سياسية للمناصرين وللثنائي بالوحدة في مواجهة العدوان. اختبر جنبلاط انعكاسات موقفه على شارعه، في محطتين: ذكرى استشهاد كمال جنبلاط في آذار وعيد الأول من أيار، حيث التزمت القاعدة الحزبية بالتلبية والحشد، والخطاب فلسطين. هذه الخطوات انعكست أيضاً في ظهور الشخصيات الحزبية على الإعلام، فبرز حضور الوزير السابق غازي العريضي وغاب النائب وائل أبو فاعور ومعه بعض ممّن لا يحتملون زعل السفراء.
ثانياً، دعم جنبلاط الموقف الرسمي اللبناني وأضاف إلى شرعيته أمام الخارج. فحين بدأت الضغوط الدولية في الأسابيع والأشهر الأولى لفصل الجبهة اللبنانية عن غزّة، سمع جنبلاط تهديدات الحرب الشاملة من السفراء والديبلوماسيين والموفدين الغربيين، وأسمعهم بدوره ضرورة إجبار إسرائيل على وقف حرب الإبادة على غزّة ومحاسبتها قبل المطالبة بوقف المقاومة لعمليّاتها. ومن بين هؤلاء، كان المبعوث الأميركي لشؤون الطاقة إلى الشرق الأوسط عاموس هوكشتين وفريقه، الذين تحدّث جنبلاط أمامهم عن الدور الأميركي في الحرب بكثير من الوضوح. حتى أن جنبلاط، رفض الطلب الذي بعثته السفيرة الأميركية عبر أحد اللصيقين به بحذف تغريدة حمّل فيها الأميركيين مسؤولية الحرب.
ثالثاً، لم ينسَق جنبلاط خلف المحاولات التي يقوم بها بشكل أساسي رئيس حزب القوات سمير جعجع، ومعه رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل، للانقضاض من الداخل على حزب الله وتحويل المطالب الغربية والضغوط الخارجية إلى مطالب داخليّة من قبل الكتل النيابية، خصوصاً بعد موقف رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل ورفعه رسائل دولية تطالب لبنان بتطبيق القرارات الدولية. بدل ذلك، استخدم جنبلاط اتفاقية الهدنة الموقّعة عام 1949 ليقدّم مخرجاً سياسياً. إهمال جنبلاط محاولات جعجع ظهر جلياً في المقاطعة الكاملة لتجمع «المعارضة» المفترضة في معراب، وفي الانتقادات السياسية العلنية لخطاب «استثناء» الجنوب من لبنان. أما الموقف الأقسى تجاه مطالبات القوات والكتائب بالفدرالية، فظهر على شكل رسائل سياسية مباشرة خلال لقاءات بين الطرفين، بتأكيد رفض الفدرالية والتقسيم، والتحذير من خطابات التحريض على مستقبل البلد. وبذلك، يكون جنبلاط قد حسم كفّة الميزان الداخلية بغير مصلحة القوات والكتائب وبعض القوى الأخرى التي تدفع باتجاه الانقسام الداخلي. بل سلب منهم القدرة على توقّع الربح في معركة محسومة النتائج، وتالياً «عقلن» خطواتهم الشعبوية «الهوجاء» للطعن بحزب الله ووحدة لبنان في عزّ الحرب.
رابعاً، وضع جنبلاط نصب عينيه مواجهة مشروع شيخ عقل الموحّدين الدروز في فلسطين المحتلة موفّق طريف، الذي يحاول توسيع دائرة نفوذه نحو الجنوب السوري ولبنان، بوقوفه الكامل إلى جانب إسرائيل التي كان جنودها يهدمون بيوت الدروز الفلسطينيين في قرى الجليل والكرمل قبل أسبوع.
قبل أيام قليلة، في دار الطائفة الدرزية في بيروت، التقى جنبلاط بشيخ العقل سامي أبو المنى، وعدد صغير من الحاضرين، وكانت طموحات طريف جزءاً من النقاش، بعد أن ظهرت أمواله في لبنان بين أيدي بعض المشايخ والفعاليات. حتى أن جنبلاط كان قد سبق له أن طرح مع المسؤولين الروس، مثل وزير الخارجية سيرغي لافروف ونائبه ميخائيل بوغدانوف، عبر الهاتف وخلال زيارته الأخيرة إلى موسكو، خطورة التعامل مع طريف كممثل للدروز في المنطقة واتخاذ مواقفه كأساس لموقف دروز المنطقة، ونصحهم بالتواصل «مع أصحاب الشأن»، بعد أن كثّف طريف اتصالاته بالروس للتحدّث باسم السويداء. وووجه موقف جنبلاط بتقارب بين طريف والسلطة الفلسطينية، قبل أن يوضّح السفير أشرف دبور خلفيات التقارب ويخفّف من وطأته.
خامساً، لا يمكن لجنبلاط إخفاء موقفه الشخصي وموقف زوجته من نظام الرئيس بشار الأسد، ورغبة جنبلاط في الحفاظ على «شعرة معاوية» مع الغرب عبر الاستمرار بسياسة العداء لسوريا، ولو أن هذا العداء لم يعد «مقرّشاً» كما كان خلال سنوات الحرب السورية الأولى. لكن جنبلاط، أوصل إلى من يهمهم الأمر في السويداء، بأنه وإن كان يدعم «مطالب المحتجّين»، إلّا أنه يرفض أي دعوة أو خطوة انفصالية تهدّد وحدة سوريا.
على عاتق جنبلاط، وابنه النائب تيمور جنبلاط الكثير من الضغوط في المرحلة المقبلة، والكثير من المسؤولية للحفاظ على هذا الموقف. لكن بلا شكّ، جنّب اصطفافُ جنبلاط لبنانَ الكثير من الأضرار الجانبية الداخلية، على وقع المعركة في الجنوب.
فراس الشوفي- الاخبار