الحزب وملياراته: كيف فكّك الدولة وفرض نفسه بديلاً… واستخدم قوّته المزعجة لشلّ المؤسّسات؟
“الحزب هو الدولة الحقيقية داخل الدولة اللبنانية، الميليشيا التي تحوّلت إلى حزب سياسي، على حساب انهيار الدولة، ويتسلّل إليها من كلّ مسامّها. لديه القدرة على عرقلة تعيين رئيس الجمهورية، ومنع البرلمان من الاجتماع، وشنّ وحده، دون التشاور مع الحكومة، صراعاً ضدّ إسرائيل. وإذا كانت فرنسا تعتبر جناحه العسكري إرهابياً، فهذا ليس هو حال جناحه السياسي الذي فرض نفسه كصانع للملوك في لبنان”.
هذا التقديم هو لمجلّة “لوبوان” الفرنسية الأسبوعية اليمينية المعتبرة في رأي الكثير من المراقبين أنّها “معادية للإسلام ولا تحترم كلّ التنوّع الحقيقي للمجتمع الفرنسي”. وهي خصّصت في عددها الأخير الذي حمل غلافه صورة المرشد الإيراني علي خامنئي والأمين العامّ للحزب كما أسمته، ملفّاً على عدّة حلقات مرفقاً بفيديوهات على موقعها عن “مليارات الحزب، الذراع المسلّح لإيران”.
ضمّ الملفّ تحقيقاً كتبه الصحافيان في لوبوان جوزيف سيرسي وإروان سيزنيك عن تداعيات الحزب على الجانب الآخر من العالم: في فرنسا، حول كيف تمكّن الحزب من نشر شبكته في فرنسا وتأسيس عدد قليل من المراكز الدينية الشيعية المعروفة بقربها منه. وفي أميركا الجنوبية، حيث أقام الحزب روابط مع عصابات المخدّرات من أجل تمويل نفسه، بحسب مراسل المجلّة غيوم بيرييه الذي قدّم تحقيقه أيضاً في سلسلة من ستّة أجزاء متاحة على الإنترنت.
أرسلت المجلّة اليمينية إلى لبنان كبير مراسليها أرمين اريفي المختصّ في شؤون الشرق الأوسط ومراسلها السابق في إيران، ليكتب روايته حول كيف تمكّن الحزب من تفكيك الدولة في لبنان ونسج شبكته في المجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية في البلاد، وكيف ينوي أن يحقّق أحد أهدافه المفترضة الآن، وهو شنّ حرب ضدّ إسرائيل، مستعيداً في تحقيقه نصّ مقابلة سابقة أجراها بتاريخ 02/03/2024 مع مسؤول العلاقات الدولية والعربية وعضو المجلس السياسي في الحزب عمّار الموسوي النائب السابق عن المقعد الشيعي في قضاء بعلبك الهرمل لدورتين متتاليتين من عام 1996 حتى عام 2005 ضمن “كتلة الوفاء للمقاومة” حول الصراع الذي وضع الحزب ضدّ الجيش الإسرائيلي منذ 8 تشرين الأول.
الحلقة الأولى من سلسلة مقالات مجلّة “لوبوان” هي رواية مبعوثها الخاصّ إلى لبنان أرمين اريفي بعنوان “كيف يفكّك الحزب الدولة في لبنان؟” التي ضمّنها فقرات مقتطعة من مقابلة أجراها قبل شهرين تقريباً مع الموسوي في مكتبه في الضاحية الجنوبية من بيروت.
كيف يفكّك الحزب الدولة في لبنان؟
للمرّة الأولى في تاريخه، اعترف الحزب ببدء الأعمال العدائية ضدّ إسرائيل: في اليوم التالي للمجازر التي ارتكبتها حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، استهدفت الحركة الإسلامية الشيعية شمال الدولة العبرية بالصواريخ، وهو ما أجبر عشرات الآلاف من المواطنين الإسرائيليين على الفرار إلى وسط البلاد.
يوضح عمّار الموسوي، مسؤول العلاقات الدولية والعربية للحزب: “دخلنا هذه المعركة لدعم أهل غزة الذين يتعرّضون للإبادة الجماعية، ولكن أيضاً لأنّ لبنان قلق من هذه المواجهة وتداعياتها على أراضيه”.
لماذا الحزب وليس الجيش اللبناني هو الذي يدافع عن جنوب لبنان؟
الجواب بسيط، بالنسبة للموسوي “لأنّه لم يعمل أحد فعليّاً على تعزيز قدرات الجيش اللبناني، بما في ذلك الدول الغربية التي تدّعي أنّها تدعم الجيش اللبناني.. لكنّ عدوّنا اليوم أقوى بكثير من الجيش اللبناني، ولهذا السبب نحن، الحزب، ننفّذ هذه المهمّة، وفق مبدأ الحرب غير المتكافئة. ونحن نقرّ ونؤيّد فكرة زيادة قدرات الجيش اللبناني حتى يتمكّن من مواجهة التهديدات والمخاطر القادمة من الجيش الإسرائيلي الذي يُعتبر العدوّ الوحيد للبنان، إضافة إلى بعض الفصائل الإرهابية التي نواجهها على حدودنا الشمالية والشرقية. ولكن هل هذا مسموح به حتى؟”.
المشكلة هي أنّ مبادرته المحفوفة بالمخاطر اتّخذت دون موافقة سلطات البلاد. “لم تكن الدولة اللبنانية، بل الحزب هو الذي قرّر بمفرده التدخّل ضدّ إسرائيل”، قال مسؤول لبناني كبير طلب عدم الكشف عن هويّته. إنّ لبنان دولة بلا دولة، لذا احتكار الاستخدام المشروع للقوّة يُمنح لجهة فاعلة غير تابعة لدولة مثل الحزب.
تسبّب هذا الصراع في خسائر فادحة في لبنان. خلال ستّة أشهر، لقي ما لا يقلّ عن 364 شخصاً، غالبيّتهم من المقاتلين لكن أيضاً 70 مدنياً، مصرعهم في الغارات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية ردّاً على ذلك.
جمع تشييع “الشهيد” إسلام زلزلي في قرية دير قانون النهر، في جنوب لبنان، في شباط حشوداً كبيرة، فسار أكثر من 15 ألف مواطن تحت أعلام الحزب لمرافقة المقاتل البالغ من العمر 49 عاماً الذي قتله قبل يوم الجيش الإسرائيلي على الحدود.
“لقد سفك الشهيد دمه دفاعاً عن لبنان”، تؤكّد نادين حسين، معلّمة اللغة الفرنسية البالغة من العمر 44 عاماً. الحزب يجلب لنا الأمن، وهو أهمّ شيء بالنسبة لي.
من هذه القرية اللبنانية نفسها جاء أحمد قصير، منفّذ أوّل هجوم انتحاري للحزب ضدّ الجيش الإسرائيلي، في تشرين الثاني 1982 حين اجتاحت إسرائيل لبنان، وتمّ إنشاء حركة “المقاومة” المسلّحة في سرّيّة تامّة بمساعدة الحرس الثوري الإيراني. واليوم، وبفضل التمويل المستمرّ من طهران وأنشطة التهريب المختلفة، يمتلك الحزب أكثر من 150 ألف صاروخ وقذيفة ويجمع حوالي 60 ألف مقاتل. وأصبح أقوى جماعة مسلّحة على حدود إسرائيل. وتحت ذريعة الكفاح المسلّح ضدّ الدولة اليهودية، يظلّ الحزب الميليشيا اللبنانية الوحيدة، التي تحوّلت إلى حزب سياسي، واحتفظت بترسانتها في نهاية الحرب الأهلية (1975-1990)، بما في ذلك بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، في عام 2000.
إلا أنّ مغامراته الحربية تجري اليوم بين أكثر من 83,000 من سكّان جنوب لبنان الذين تشرّدوا بسبب القتال.
تمييز بين النازحين
لجأت نور (37 عاماً)، وهي من بلدة البستان المتاخمة للجدار العازل الذي بنته إسرائيل على الحدود، منذ ستّة أشهر مع عائلتها إلى مدرسة رسمية في مدينة صور دون أدنى احتمال للعودة. “من بدأ هذه الحرب هو المسؤول عمّا يحدث لنا”، تقول هذه المزارعة مفضّلة عدم تسمية الحزب خوفاً من الانتقام. وممّا يزيد من صعوبة نفيها أنّ هذه المرأة العازبة اضطرّت إلى التخلّي عن حقل الزيتون الخاصّ بها خلال موسم الحصاد، وهو ما يمثّل خسارة قدرها 6,000 دولار تقريباً في دخلها. ومنذ ذلك الحين، تمضي أيامها في رعاية والديها المسنَّين في القاعة الدراسية الصغيرة التي قدّمتها لهم البلدية. تقول: “نحن نفتقر إلى كلّ شيء هنا. الدولة لا تعطينا شيئاً. الأوضاع الصحّية مزرية، ولا نعرف متى سنتمكّن أخيراً من العودة إلى ديارنا”.
في المقابل، فإنّ النازحين الملتزمين بقضية الحزب هم أكثر حظّاً. فالحزب يحلّ أيضاً محلّ الدولة اللبنانية على المستوى الاجتماعي. استغرق الأمر أسبوعاً واحداً فقط حتى يتمّ نقل ميرا وعائلتها، من قرية كفركلا الشيعية الحدودية، إلى شقّة مفروشة من أربع غرف، مع تلفزيون وجهاز ألعاب فيديو، في مدينة النبطية، على بعد 15 كيلومتراً شمال منزلهم.
“الحزب يتولّى دفع الإيجار. كما أنّه يقدّم لنا مساعدات نقدية وغذائية عبر البلدية”، تقول الأمّ، “كلّ الرعاية الطبّية مجانية، ناهيك عن أنّ أحد عناصر الحزب كثيراً ما يطرق الباب ليسأل عمّا إذا كان ينقصنا أيّ شيء”.
في هذه الأوقات من الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي يشهدها لبنان، والتي أغرقت منذ عام 2019 أكثر من 80% من السكّان تحت خطّ الفقر، يُنظر إلى سخاء الحزب على أنّه نعمة، لا سيما في جنوب البلاد، حيث غالبية السكان من الشيعة، هذه الطائفة، التي كانت مهمّشة سابقاً في لبنان، وتمثّل حوالي ثلث السكان، ترتبط إلى حدّ كبير بالحزب وحليفته الشيعية حركة أمل، سواء عن قناعة أو عن مصلحة.
في محاولة لقطع الموارد المالية للحزب المصنّف كمنظمة إرهابية، ضاعفت الإدارات الأميركية المتعاقبة العقوبات الاقتصادية، دون تحقيق أهدافها على الإطلاق. فهي تنسى أنّ قوّة الحزب تكمن بالضبط في حقيقة أنّ شبكاته تفلت من القطاعات المالية التقليدية. فـ”القوّة المالية للحزب تأتي في المقام الأوّل من إيران، لكن أيضاً من سيطرته على تدفّقات الاقتصاد الموازية المرتبطة بتهريب البضائع، وذلك بفضل سيطرته على الجمارك والحدود في البلاد”، يقول مسؤول لبناني كبير سابق طلب عدم الكشف عن هويّته. ويضيف: “ليس للحزب وجود ملموس في الاقتصاد الظاهري للبلاد أو في القطاع المصرفي. كما أنّ إفلاس الدولة اللبنانية لم يؤدِّ إلا إلى تعزيز تفوّقه الماليّ على منافسيه. والأزمة المالية تعني أنّ الدور الآن على معارضيه لإعادة إنتاج هذه الممارسات التي كانوا أوّل من ندّد بها”.
برلمان مقيّد ومؤسّسات مشلولة
للحزب مصلحة كبيرة في استمرار تدهور الدولة من أجل الحفاظ على صلاحيّاته. ويستخدم قوّته المزعجة على الساحة السياسية لشلّ المؤسّسات.
في مقرّ مجلس النواب في وسط بيروت التاريخي الغارق في الظلام، يقول ملحم خلف المدرج في قائمة قوى التغيير، والذي يقيم في البرلمان منذ نهاية ولاية الرئيس ميشال عون قبل أكثر من خمسمئة يوم، إنّ “الوضع خطير للغاية. نجد أنفسنا أمام دولة مقطوعة الرأس وحكومة مستقيلة أعلنت هي نفسها عجزها عن إدارة شؤون البلاد”.
يشير خلف إلى مسؤولية زملائه البرلمانيين الـ 127، المسؤولين بموجب الدستور عن تعيين رئيس الدولة من الطائفة المسيحية المارونية في اقتراع سرّي. لمدّة عام ونصف، يتكرّر السيناريو نفسه في كلّ جلسة مفترضة للانتخابات: ممثّلو الحزب المنتخبون وحلفاؤه، الذين يصوتون فقط لمرشّحهم، سليمان فرنجية، الصديق المقرّب للديكتاتور السوري بشار الأسد، المتحالف مع مصالحهم، ينهضون معاً ويغادرون الغرفة لمنع الجولة الثانية. ونظراً لعدم اكتمال النصاب القانوني، يتمّ رفع الجلسة دون انتخاب أيّ رئيس. ويقول خلف: “لا يعقل أن يتمّ تعطيل الدستور بهذه الطريقة. فخلال هذا الوقت، يتمّ اتّخاذ جميع القرارات السيادية في غياب الرئيس”.
تمتدّ عرقلة الحزب إلى قلب الحكومة. ووفقاً للمسؤول الكبير، “يستغلّ الحزب غياب النصاب القانوني داخل مجلس الوزراء، من خلال سحب رجاله عندما لا تناسبه الأجندة. كما أنّه اخترق الإدارة من خلال دفع رواتب عشرات الآلاف من موظّفي الخدمة المدنية بالدولار، الذين يعتمدون عليه بشكل أكبر في هذه الفترة من الأزمة”.
ما ساهم في هيمنة الحزب على الحياة السياسية اللبنانية إلى هذا الحدّ، تمكّنه من ترسيخ سلطته خارج نطاق الناخبين الشيعة البسطاء، وذلك بفضل تحالف غير طبيعي أبرمه عام 2006 مع التيار الوطني الحر، أحد الأحزاب المسيحية الرئيسية.
إلا أنّ حصار الرئاسة بات يتجاوز أقرب حلفائه. يحذّر جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر، من أنّ “اتفاقنا معلّق بخيط رفيع، وهشّ للغاية”. ويعتبر تأكيداً على دعم الحزب في مساعيه لـ”حماية لبنان” من إسرائيل أنّ “على الحركة الشيعية في المقابل أن تأخذ في الاعتبار رغبة التيار الوطني الحر في بناء دولة فاعلة. وهذا يجب أن يسفر عن انتخاب رئيس توافقي لا مرشّح تحدٍّ لقسم من اللبنانيين”.
العدالة في طريق مسدود
لكنّ معارضة أسياد البلاد علناً قد تكون باهظة الثمن. فقد عُثر على الصحافي لقمان سليم، المعارض العنيد للحزب ولسيطرته على الطائفة الشيعية، مقتولاً في سيّارته بجنوب لبنان في شباط 2021، وجسده مثقوب بالرصاص. وكان قبل ذلك بأسابيع، قد اتّهم الحزب والنظام السوري بتخزين نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، مصدر الانفجار المروّع الذي دمّر العاصمة اللبنانية في 4 آب 2020. وكان في وقت مبكر من عام 2019، وفي رسالة مفتوحة، ألقى المسؤولية الكاملة عن مصيره المستقبلي على قادة الحزب وحركة أمل.
“ليس هناك أيّ شك في هويّة قاتل زوجي”، تقول مونيكا بورغمان، أرملة لقمان سليم الألمانية الأصل. “فمن غير الحزب يمكن أن يكون مذنباً؟”. وتتابع: “لم أكن أعتقد أنّهم سيجرؤون على قتله. كان شخصاً قويّاً جداً، لكنّه لم يقاتل إلا بالكلمات. لا شكّ أنّ قتلته لم يتقبّلوا الانتقادات القادمة من شخص ما في مجتمعهم”.
لكنّ الحزب ينفي أيّ دور له في الاغتيال. والتحقيق للعثور على قتلته بات في طريق مسدود.
تقول بورغمان، التي لا تزال تعيش في لبنان، على الرغم من المخاطر: “للأسف، فإنّ تاريخ أكثر من 200 اغتيال سياسي في لبنان، والتي لم يتمّ حلّ سوى عدد قليل منها، لا يمنحنا إلا القليل من الأمل”.
لقد تمّ تعليق التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت منذ كانون الأول 2021. أمّا أعضاء الحزب الثلاثة الذين أدانتهم المحكمة الخاصة بلبنان التابعة للأمم المتحدة غيابياً بتهمة قتل رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005، فلم يتمّ تقديمهم إلى العدالة مطلقاً.
اساس