فارس اشتي وهجانة “الأحزاب السياسية”
محمد علي العريبي*
صدر حديثاً عن #المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات #كتاب “الهجانة في تشكّل الأحزاب السياسية الحديثة”، للدكتور فارس اشتي، أستاذ الفكر السياسي في الجامعة اللبنانية، والنقابي المتمرّس، وصاحب مجموعة من المؤلفات المنشورة منها “المدخل إلى العلم بالسياسة”، و”الإعلام العالمي: مؤسساته، طرق عمله واهم قضاياه”، و”الاحتباس الديموقراطي في الأحزاب اللبنانية”، و”الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي”، و”التشكل النقابي لأساتذة الجامعة اللبنانية، حدود الربط والحل”.
يدخل فارس اشتي في كتابه الجديد إلى طروادة الأحزاب السياسية في العالم العربي على صهوة الحصان وليس في جوفه (حصان طروادة)، ويعبر إلى باحاتها المفتوحة والمغلقة سافراً وليس متخفياً، لأن أبوابها من ورق وحراسها من شمع فاسد الصنعة في الغالب. وشأنه في ذلك شأن صانع تماثيل الآلهة الذي لا يعبد أيّ واحد منها لأنه يعرف كل إله من أي معدن مصنوع.
يرى المؤلف أن فكرة الحزب السياسي الوافدة إلى العالم العربي نمت على أرضية هشّة هجينة في بناها المجتمعية القائمة على الإنتاج الزراعي والرعوي، ومحكومة في مجالها السياسي من السلطة الأبوية والسلطة النبوية، والسلطة الأوتوقراطية، وكلها مرهونة بعلاقات الوﻻء والتبعية والاستبداد، تطويعاً وتطبيعاً، وبعيدة عن مقومات الرأسمالية الغربية الحادثة، حيث نشأت الأحزاب، لجهة الإنتاج والتصنيع وتطور القدرات العلمية والتقنية والاقتصادية والعسكرية. واختلطت، في المجال العربي، الحزبية بعقلية الزاوية في المغرب، ونمطية الطائفة والقبيلة أو العشيرة في المشرق.
يعرض في الفصل الأول من كتابه “مفهوم الحزب السياسي” متقصّياً جذوره المجتمعية، بوجهيها النظري والإجرائي وأصول تكوينه كمؤسسة سابقة للتنظيم. فمن حيث المؤسسة لان طبيعة الإنسان أنه كائن بيولوجي له حاجاته الفردية الشخصية، واجتماعي لجهة حاجته إلى معاونة اﻵخرين معاً، الأمر الذي يتولد عنه الموازنة بين قطبين: الأنانية والغيرية ويفرض عليه الانتماء إلى أكثر من مؤسسة، ومحكوم في كلٍ منها بالتنافس مع آخرين لبلوغ الموقع الخاص الأفضل والمحافظة عليه.
ومن لوازم الفردية الشخصية والغيرية الاجتماعية “الإمرة” أو السلطة وما يستتبعها من ثنائيات متصارعة منظمة في المجتمع الواحد، ويلمع جيفري سيرل دو فرجيه إلى الثنائية في التنظيم رابطاً إياها في بريطانيا بالثنائية في العقل البشري، وبالثنائية الدينية (انقسام الكنيسة عقدياً وطقسياً)، وثنائية التقليد والتجديد، والانقسام بين حزبي العمال والمحافظين. ويمكن هنا إضافة اليمين واليسار في مجلس النواب الفرنسي. ويرى المؤلف الوجه الإيجابي لهذا الانقسام لكونه يُفعِل الانتظام السياسي في الدولة ويعدل في الأسس التكوينية للثنائيات ويفعّل معاييرها. وهذه اﻷخيرة، بشتى ارتباطاتها بالمعتقدات والتقاليد وبالحقل السياسي، تضبط ممارسة الناس/ الأفراد في علاقاتهم المجتمعية وتكثف تفاعلهم الصراعي والتسووي في آن، وتعبّر عن تسليمهم بتوازن ما يتيح الاستقرار ويوجه السلوك. والحزب، كأداة ضمن المؤسسة الحزبية، يتكيف في مكوناته الأساسية مع طبيعة المجتمع ومراحل تطوره.
ويتناول في الفصل الثاني الفهم النظري للحزب السياسي كما تجلى في كتابات صدرت في البلدان الرأسمالية، وتحولاته من حزب النخب إلى حزب جماهير أمسكت بالسلطة ليتحول تالياً إلى حزب شبكة. ويقدم المؤلف سلة من التعريفات التي أطلِقت على الحزب السياسي أبرزها تعريف يوهان كاسبار بلنتشلي بأنه “مجموعات اجتماعية حرة داخل الدولة تتحد من أجل العمل العام بروابط المبادئ والأفكار والطموحات السياسية الواحدة أو المتقاربة” وربطه وجود الأحزاب عبر التاريخ بالنشاط الإنساني للناس وللسلطة. ويقارن هذه الكتابات مع مثيلاتها في الأدبيات العربية، وتتبع مصطلح الحزب لغوياً وتراثياً، وتدرّج مراحله وأصنافه.
ويستلّ من مقالة لجرجي زيدان تعريف الحزب السياسي، في القرن العشرين، بأنه “طائفة من الناس تجمعهم دولة واحدة يتكاتفون في نصرة مصالح الملّة، ولو آل ذلك إلى الاحتجاج على الدولة أو مناهضة الحكومة بالقلم أو باللسان أو بالسيف، وإن تعددت الأحزاب في الدولة الواحدة فإن هدفها واحد وهو خدمة المصلحة العامة”.
ويتناول اشتي بإسهاب مسألة تشكُّل الأحزاب السياسية في المجال العربي ويرصد مراحلها والمؤثرات الفاعلة والمحددات العامة والخاصة في تكوّنها وتباينها تاريخياً. يشير أولاً إلى تراكم الفعل المجتمعي بثنائية الأنا والغيرية، للفرد وللجماعة ضمن الوحدة المجتمعية في أول أشكال الاجتماع السياسي الحاضن لموروثه الزراعي والرعوي، ثم تحوّل علاقات الإنتاج مع التغير في نمط الإنتاج وتشكُّل المدن وانقسام المجتمع إلى مالكين وعمال، وتخلخلت طبيعة “الإمرة” أو الرئاسة، وبرز التنافس بين نخب مكوناتها (وجهاء العائلات أو العشائر)، إذ تحرك وجهاء بلاد الشام في عهد السلطنة العثمانية ثم الاستعمارين الفرنسي والإنكليزي. ويحصي التشكّلات الحزبية التي يغلب عليها طابع الجمعيات والحركات، ويقدم ثبتاً بالحركات والجمعيات التي نشأت، في القرن العشرين – ما قبل وما بعد الحرب العالمية الأولى، في فلسطين، ولبنان وسوريا، والأردن، وفي تونس، والجزيرة العربية. وتشكلت الأحزاب بعد ذلك في ظروف غير مؤاتية ومحكومة أولاً بعدم انتظام البلدان العربية في دولة واحدة، بعد انفكاكها عن السلطنة العثمانية ونشوء الدول، الذي نتج عنه التشكيك بالركن الأول لوجود الأحزاب السياسية، الذي يمثل، وهو تخلخل البنية المجتمعة على المستوى الإنتاجي (نظام الإنتاج الزراعي)، والتنوع في التكوين الجغرافي (صحاري وجبال وعرة باعدت بين سكان العالم العربي، والوضع الاقتصادي الذي يلامس الكفاف) والتنوع الإتني واللغوي (أمازيغ، وأكراد، والنيليون [جنوب السودان] والنوبيون والشراكسة، والتركمان) والديني والمذهبي، والتعليمي…
ثم إن الإمرة في المجال العربي، وهي المحدد الثالث، لم تكن على سوية واحدة وتختلف صورتها الظاهرة وحقيقتها عملياً (تبعيتها). وعدم وجود حقل واحد للأحزاب، قبل الحرب الأولى وبعدها واستقلال الدول بعد الحرب العالمية الثانية وترافقها مع إنشاء دولة إسرائيل واغتصاب أرض فلسطين وبروز التباينات في الحامل المجتمعي ومفاعيله على الأحزاب السياسية القابلة بالتقسيمات والمقبلة على المشاركة في السلطة والمنافسة (الأحزاب الليبرالية المتمثلة في العاملين في قطاع الخدمات والتجار والمصرفيين)، والأحزاب الشيوعية والاشتراكية العابرة للحدود (المتمثلة بالعمال والهامشيين)، وكل ذلك أثّر في طبيعة الأعضاء وفي فاعليتها.
وتوقف المؤلف عند التحولات التي أصابت المجال السياسي للأحزاب في الثلث الأخير من القرن العشرين والمستمر حتى اليوم لجهة ترهّل الدولة ومنطقها، وتنامي حركة التصالح مع إسرائيل من جهة، وانشغال الأحزاب بقضايا الديموقراطية والتنمية. ويحاول الكشف، بشيء من الدقة التاريخية والممارسة، عن هجانة الأحزاب السياسية في العالم العربي من خلال أنموذجين هما: الحزب الشيوعي اللبناني وحزب البعث العربي الاشتراكي.
فحزب الشعب اللبناني الذي صار الحزب الشيوعي اللبناني، وأصبح فرعاً من الأممية الشيوعية الثالثة، تحوّل من حزب محلي إلى فرع من حزب عالمي شديد المركزية، يفرض نظامه الداخلي خضوع فروعه في برامجها وعملها النقابي وإعلامها وأساليبها. ومر الحزب بمراحل مرتبطة بالتحولات التي أصابت المجتمع اللبناني وظروفها، إلى التحول الكبير الذي عصف به بعد 1992 مع تفكك الاتحاد السوفياتي، وفي الجانب التنظيمي، وهو الأحدث بين الأحزاب، لم يكن واضحاً. ويحدد الدكتور اشتي بإسهاب مواطن الهجانة في الحزب في المجال السياسي. وينتقل إلى الكشف عن مواطن الهجانة في حزب البعث الاشتراكي منذ تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية وتحديد هدفه وهو بعث الأمة العربية ووحدتها وبناء تنظيم قومي وتوسعه بفعل الشعار الذي رفعه، وتسلّمه السلطة في بلدين: سوريا والعراق.
ويؤكد المؤلف على التكوين الهجين المجتمعي لبنية هذين الحزبين وما أثاره من مشكلات منذ التأسيس وتحديد الأهداف والغايات وغموض البرامج الذي أغرقها في متاهات واختلالات في فعاليتها العصية. ليختم باستحالة قيامة حزب سياسي حديث بحسب المعيار الغربي في المجال العربي لتخلخل البنى المجتمعية اللازمة. وبالعودة إلى المعنى اللغوي للهجانة، وقد يكون المضمر عند المؤلف، وهو قاسٍ في مطلق الأحوال، فالهجانة تقال على الصبية التي تزوجت قبل بلوغها، وعلى النخلة التي حملت وهي صغيرة. والمعيار نفسه، وهو افتراضي أصلاً، قد يصير هجيناً بفعل العولمة التي تلفّ الأرض علمياً واقتصادياً وسياسياً.
*أستاذ فلسفة في الجامعة اللبنانية
المصدر: النهار