«توسيع الجبهات»: فتح جبهة لبنان فرصة إسرائيلية قد لا تتكرَّر

قد يكون من الصعب بمكان رسم نهائيات سياسية لما يجري في غزة قبل أن تنجلي مآلات الهجوم البريّ الإسرائيلي على شمال القطاع. ولكن ما تشي به عواصم القرار الغربي يُؤشِّر إلى استحالة القبول ببقاء حركة «حماس» على رأس السلطة في غزة، بمعزل عن حجم النتائج التي يمكن أن يُحققها الجيش الإسرائيلي على الأرض. تُمهِّد تل أبيب إلى أن الكلفة ستكون مرتفعة والمعركة طويلة، فيما رهان «محور إيران» على أنَّ لا قدرة لها على تحمُّل الأكلاف العالية.

خرج أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله، بعد 28 يوماً من عملية «طوفان الأقصى» ليُعلن «إننا لم نكن على عِلْمٍ بالعملية». غسل يده ويد إيران من العملية التي سمّاها «حادثة». قال إن «العملية فلسطينية مئة بالمئة» بمعنى أن حركة «حماس» تتحمَّل لوحدها تبعاتها. وفي كلامه بطريقة الاستهزاء، تحدث عن أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية هدَّدت طهران إذا تدخَّل «حزب الله» بالمعركة. هنا بيت القصيد، التهديد الأمريكي هو باستهداف إيران مباشرة وليس أذرعها. بالطبع غاب شعار «وحدة الساحات» عن خطاب نصر الله. واستعاض بالحديث بالوكالة عن جماعة الحوثي والميليشيات العراقية المنضوية في الحرس الثوري الإيراني، إذ اعتبر أن صواريخ الحوثي التي يُطلقها من اليمن باتجاه جنوب إسرائيل، والتي يتم اعتراضها راهناً، سيستطيع بعضها أن يصل إلى هدفه، وأن الميليشيات العراقية التي تستهدف القواعد الأمريكية ستصعِّد من عملياتها. وفاض في الشرح عن أهمية ما يقوم «حزب الله» في جنوب لبنان من إشغالٍ للجيش الإسرائيلي تخفيفاً عن غزة ومساندة لها. غيَّب سوريا وإيران عن وحدة الساحات، تاركاً إياهما للمرحلة التالية.

في الترجمة العسكرية لكلام نصر الله أنَّ الأعمال العسكرية التي سيقوم بها «محور إيران» ستبقى مضبوطة وضمن قواعد الاشتباك. وفي الترجمة السياسية أن الحبل بين أمريكا وإيران لم ينقطع وخط التفاوض مفتوح؛ وهو كذلك في سلطنة عُمان. قراءة مناوئي «المحور» لكلام نصر الله أنَّ طهران على استعداد لصفقة مع أمريكا على رأس «حماس». القيادتان السياسيتان للبلدين تعلنان أنهما لا تريدان للحرب أن تتوسَّع. ولكن ماذا لو انزلقت الأمور؟

مراكز القرار

مناخات الغرب، والتي تعكسها مراكز القرار، تُفيد أنَّ لا مفر من هزيمة «حماس»، وأن انتصارها يُشكِّل خطراً حقيقياً على أوروبا التي سيغزوها «الإسلام السياسي». ولكن لا يقتصر الأمر على «حماس»، إنما الحديث يذهب إلى أذرع إيران في المنطقة.
يحلُّ سكون القبور في لبنان، وعجز فاضح للقوى السياسية. تعتري المخاوف الكواليس الرسمية ليس فقط من حرب مدمرة، بل من إفراغ منطقة جنوب الليطاني وتهجير سكانها إلى الداخل اللبناني. انطلق القرار الأممي 1701 بعد حرب تموز/يوليو 2006 من جعل جنوب الليطاني خالياً من السلاح غير الشرعي ليبسط الجيش اللبناني سلطته على الحدود، وزاد عديد القوة الدولية إلى 15 ألفاً لهذه الغاية. تمَّ تفريغ القرار من مضمونه، وساهمت السلطتان السياسية والعسكرية اللبنانية ومعهما الأمم المتحدة بتقويضه، وليس وجود «حزب الله» في تلك المنطقة على الحدود مدججاً بالسلاح والصواريخ وفاتحاً الطريق أمام فصائل مسلحة أخرى سوى الدليل الحثيّ على سقوط القرار.

هذه المخاوف تنطلق من إمكانية أن تجرَّ إسرائيل «حزب الله» إلى الحرب على جبهة لبنان. فتلك الفرصة المتأتية عن حجم الانخراط الأمريكي والغربي قد لا تتكرر بالنسبة للدولة العبرية. وهذه المخاوف تستند إلى معطيات تتقاطر من أكثر من عاصمة، ولا سيما من واشنطن. صحيح أن إدارة جو بايدن غير راغبة في سنة انتخابية على توسيع الحروب، ولا سيما أنَّ جهدها يذهب إلى مواجهة روسيا في أوكرانيا وإلى محاولة احتواء الخطر الصيني، لكن للدولة العميقة في الولايات المتحدة – والتي وفق مطّلعين أمريكيين تتولى إدارة الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل – قناعة بأنه إذا لم يتمّ توجيه ضربة قاصمة لـ«حزب الله» تزامناً مع حرب غزة، فإن الحرب معه آتية بعد سنوات لا محالة. وما جرى في عملية «طوفان الأقصى» عزَّز القناعة حول ضرورة منع حصول إيران على أي سلاح نووي، والذي يمكن أن يصل إلى أيدي جماعاتها في المنطقة، وهذا من شأنه أن يضرَّ بالأمن القومي الأمريكي والعربي والمصالح الأمريكية في المنطقة وفرص الاستقرار فيها.

والاستقرار في الشرق الأوسط لن يكون من دون حلول سياسية للقضية الفلسطينية، حيث ارتضى العرب بـ«حل الدولتين»، دولة إسرائيلية مجاورة لدولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. بالأمس قالها وزير الخارجية الأمريكي بوضوح لقادة إسرائيل. وأضحى لسان حال كثير من القادة الغربيين. التركيز العربي اليوم هو على التوصّل إلى وضع «خارطة طريق» لـ«حل الدولتين»، من خلال الضغط دولياً في هذا الاتجاه إذا كان القرار فعلياً لوضع نهاية للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. فما دون التوصل إلى حل سياسي، ستكون الحرب في غزة اليوم جولة من جولات الصراع الذي باتت أثمانه كبيرة على الجميع.

خطة تهجير فلسطينيي غزة

والقلق من خطة تهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء، والذي سيفتح الباب أمام تهجير مستقبليّ لفلسطينيي الضفة إلى الأردن يبقى حاضراً على الرغم من الموقف العربي الموحَّد الرافض لها. وليس واضحاً ما سيرسو عليه المشهد في غزة على مستوى الحل السياسيّ. فكيفية وقف الحرب الإسرائيلية وما تسبّبه من كارثة إنسانية ستحتاج إلى أكثر من اجتماع عمّان التنسيقي الذي عُقد الرابع من نوفمبر الحالي وضم وزراء خارجية الأردن، ومصر، والسعودية، والإمارات، وقطر، وأمين سر اللجنة التنفيذية لـ«منظمة التحرير» الفلسطينية، وما تلاه من اجتماع ثانٍ بين الوزراء العرب ووزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن. فالنقاشات العربية والدولية الجارية حول مَن سيحكم القطاع في اليوم التالي لتوقف الحرب ما زالت في بداياتها. ما يهمُّ أمريكا وإسرائيل هو ألاّ تتحوَّل المطالبات بهدنة إنسانية إلى فرصة تستفيد منها «حماس». وما يهمُّ العرب هو أن يلتقط أهل غزة أنفاسهم وأن تدخل المساعدات إليهم وأن تُزوَّد المستشفيات بالوقود.

يقف الجميع بين حدّين. إسرائيل تُطوِّق غزة وإنْ كان هناك مَن يجادل أنها لم تشطرها بعد إلى شطرين، فتشطرها غداً أو بعد غد. الكلام الذي بدأ يتسرَّب هو أنَّ المقاتلين الفلسطينيين الموجودين في الشطر الشمالي سيتحوّلون إلى ورقة في ملف تبادل الرهائن. هذا سيُعقّد المشهد في الحرب الطويلة التي فاق ضحاياها في أقل من شهر العشرة آلاف على الضفة الفلسطينية مع عشرات الآلاف من الجرحى ودمار هائل وتغيير في المعالم الجغرافية.

يُراهن «محور إيران» على حلّ في القنوات الخلفية يُنزل الجميع من على الشجرة، بحيث يتراجعون عن السقوف العالية التي رفعوها. يدور الكلام حول هدنة إنسانية تُمدَّد مرَّات عدّة لتتحوَّل لاحقاً إلى وقفٍ للأعمال الحربية، والآمال معلّقة على ولادة «سلطة هجينة» تتولى الحكم في غزة لا تتصدَّرها حماس ولا تُقصيها. ويراهنُ العرب على «واقعية سياسية» لا بدَّ من أن تُوصل إلى حل يُؤمِّن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ويُؤمِّن الأمن للإسرائيليين. كلام يبدو باكراً، فالحرب لم تلقِ أوزارها بعد وليس في الأفق بعد ما يدلُّ على أننا أصبحنا على مقربة من ذلك.

رلى موفق- القدس العربي

مقالات ذات صلة