“حرب المصطلحات” تهيمن على شاشة المعارك في غزة

صراع المصطلحات الدائر على الملأ لا يقل ضراوة عن الحرب الدائرة على أرض غزة، فما كادت تمر دقائق قليلة على شن العمليات العسكرية الإسرائيلية حتى وجد ملايين الأشخاص أنفسهم غارقين في مصطلحات لا يخلو معظمها من تسييس، ومواقف مسبقة ليست بالضرورة معلنة، وأخرى آنية ولدت من رحم الأحداث المباغتة وما نجم عنها من “سيوف حديدية” وسلسلة الأفعال وردود الأفعال المتواترة التي تتوالى على مدار الدقيقة.

كل ما سبق دفع عدداً من المؤسسات الإعلامية إلى تخصيص مساحات لشرح المصطلحات والمسميات بينها “حماس” و”كتائب القسام” و”فتح” والسلطة الفلسطينية والأراضي الفلسطينية والرئيس الفلسطيني والضفة الغربية و”الجهاد” و”حزب الله” والجبهة الشمالية ورفح والممرات الآمنة والمعابر ومعبر رفح والحرب الكبرى وقائمة المسميات معروفة، ولكن إنعاش الذاكرة بماهياتها، إضافة إلى إخبار القراء والمتابعين الأصغر سناً بالمقصود، تحتمهما الأحداث المتلاحقة.

وصف متنازع عليه

الأحداث المتلاحقة هذه المرة لم تفتح فقط باب المسميات بهدف العلم بالشيء والتذكير بالمواقع والمكانات والتحالفات، ولكنها فتحت باب المصطلحات المختلف عليها والنعوت المتعارك عليها.

في كل مرة تندلع حرب، يقف الطرفان المتحاربان على جبهتي مصطلحات ونعوت نقيضة لبعضها بعضاً، فما هو حق مؤكد لفريق، هو باطل وبهتان للآخر، وما يتم الحديث عنه باعتباره دفاعاً هنا، يعتبر هناك هجوماً وعدواناً، وهلم جرا.

لكن ما يجري على أثير الإعلام من تلفزيون ومواقع وصحف وصفحات رسمية وعلى منصات التواصل الاجتماعي من تراشقات بالمصطلحات مع انعدام القدرة أو الرغبة أو كليهما على ضبطها بشكل موضوعي، ينافس الحرب في سخونتها والصراع في تعقيداته وتشابكاته.

تشابك مفاهيم الإرهاب بالمقاومة، والمدنيين العزل بالمحتلين المغتصبين، والمجاهدين بالإرهابيين، والتهجير القسري بالإخلاء، والقصف بالتطهير، والاعتداء بالحماية، والهجوم بالدفاع، وليلة رعب تعيشها إسرائيل بليلة دك على رؤوس سكان غزة، وصواريخ المقاومة بقصف المحتل وقائمة تطول في ظل “حرب القطاع” الدائرة رحاها، أدخل وسائل إعلام دول العالم في متاهات ما يصح وما لا يصح في مصطلحات الحرب وتفاصيلها.

الحقيقة أولى الضحايا

تفاصيل أي حرب أو صراع تجد نفسها حائرة بين ضفتي المتقاتلين، فما هو حق مشروع وضحايا وشهداء عند فريق هو تعدٍ وقتلى وإرهاب عند الآخر، و”في الحروب عادة تكون الحقيقة هي أولى الضحايا”، كما يقول مهندس الصناعات العسكرية الذي تخصص في العقدين الماضيين في البحث والكتابة عن أماكن الصراع والسلام في العالم ستيورات باركينسون، تحت عنوان “قاموس قصير لمصطلحات الحرب” (2022).

وعلى رغم أن ما كتبه كان مدخله حرب روسيا في أوكرانيا، فإن الحروب تظل متشابهة في تعقيداتها واستقطاباتها على منصات الإعلام، ويقول “قد يكون من المفيد أن نتأمل كيف يتم وصف الحرب والأسلحة المستخدمة من قبل الساسة والصحافيين والمعلقين والعسكريين، بحسب الجانب الذي يدعمونه. بعض المصطلحات تكون مألوفة لأولئك الذين يتابعون الإعلام في زمن الحروب مثل “المقاتلين من أجل الحرية” مقابل “الإرهابيين”، أو المصطلح العسكري “الأضرار الجانبية” المستخدم للتستر على الضحايا المدنيين. ومع ذلك، هناك مصطلحات حديثة آخذة في الانضمام إلى قاموس الحرب”.

أمتنا وأمتهم

وضع باركينسون قاموساً مصغراً لمصطلحات الحروب في الإعلام وقسمها إلى قسمين رئيسين، أمتنا وأمتهم، فمثلاً أمتنا تنشر معلومات عسكرية مضللة (مقصودة بغرض تضليل العدو)، هي في نظر أمتهم أكاذيب أو أخبار مفبركة، والعمليات العسكرية والحروب التي تخوضها أمتنا للدفاع عن مصالحنا الوطنية الحيوية هي عدوان أو غزو بالنسبة إلى أمتهم… والأضرار الجانبية التي تنجم عن عمليات الأولى هي جرائم حرب لدى الأخيرة.

قوة أمتنا الجوية هي قاذفات قنابل عند أمتهم، وأولاد وبنات أمتنا الشجعان جنودنا الوطنيون هم المجندون الذين خضعوا لغسل الأدمغة مسلوبو القدرة على التفكير لدى أمتهم، ومقاتلو أمتنا من أجل الحرية هم الإرهابيون في عرف أمتهم، وحين تدعم أمتنا حرباً تدافع عن مصالحنا الوطنية الحيوية، فإن أمتهم تراها إما دخولاً في حرب بالوكالة أو حرباً قذرة.

حروب ومصطلحات

هذه هي مصطلحات الحرب منذ عرفت المعارك طريقها إلى الإعلام والإشهار بغرض إعلام الشعوب أو توجيهها أو تشكيل رأيها أو صناعة جبهة شعبية داعمة إلى آخر أهداف الإعلام، ما يعلن منها وما يبقى حبيس الأجندات وسجين صناع السياسات العسكرية والأمنية وكذلك الإعلامية.

السياسات العسكرية والأمنية والإعلامية في “حرب القطاع” وتفاصيل ما يجري على الأرض منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري والتحولات الكبرى لدى عدد من دول العالم، شعوباً وقيادات في مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، جميعها يجعل من معضلة المصطلحات حرباً أخرى على هامش الحرب الأصلية.

الأصل في الإعلام الحياد، في الأقل بحدود المتاح والمستطاع، لكن من يصنع الإعلام حتى اللحظة بشر وليس ذكاءً اصطناعياً قادراً، أو بالأحرى لا يملك القدرة بعد، على الفصل بين المشاعر الإنسانية الملتهبة وردود الفعل البشرية على الأحداث الجلل، ومن جهة أخرى فإن القائمين على أمر الإعلام ليسوا منفصلين عن قواعد العمل المنصوص عليها في مؤسساتهم التي لا تخلو من أجندات ومصالح وغيرها.

عائلة المراسل

يخفت حديث المصالح حين يفاجأ المراسل العسكري أو الحربي وهو على الهواء مباشرة أن أفراد من أسرته قضوا في قصف، أو خطفوا ضمن عملية، أو دك بيتهم على رؤوسهم وهو يعلم علم اليقين باعتباره من أهل المدينة وسكان الشارع أن من قام بذلك هو الطرف (أ) في الصراع، فهل يتحلى بالموضوعية ويخبر المتلقين أنه ينبغي انتظار التحقيق قبل إعلان الجناة، أو أن من قضوا هم “قتلى” وليسوا “شهداء”، أو أن من اقترفوا ذلك هم “مقاتلون” أو “جنود” وليسوا “قتلة” أو “إرهابيين”، أم يجد نفسه واقعاً في فخ الابتعاد من الموضوعية والانجراف وراء الإنسانية أو حتى المشاعر الشخصية؟!

“لا يمكنك أن تكون موضوعياً في شأن معاناة الأبرياء أو تعرضهم للقتل. بغض النظر عمن هم، أو الجانب الذي يمثلونه، إن حدوث موتهم خطأ فادح وهذه حقيقة تستحق التغطية”، هذا ما كتبه أستاذ الإعلام ومراسل قنوات إخبارية أميركية الذي أمضى عقوداً في منطقة الشرق الأوسط وغطى عدداً من الحروب والكوارث لورنس بينتاك قبل أيام تحت عنوان “تغطية صراع غزة: الإعلام الغربي والبحث المنقوص عن التوازن”.

يرى بينتاك أنه حين يتعلق الأمر بالحروب، لا يوجد شيء اسمه الموضوعية، ويقول “رؤية الأبرياء يموتون أمر مشحون عاطفياً بشدة، ويحدث للصحافي مثله مثل أي إنسان آخر. لا يمكنك أن تكون موضوعياً في شأن معاناة الأبرياء أو تعرضهم للقتل. وهذا هو السبب الرئيس الذي جعلنا نسمع مثل هذا الغضب والانفعال في التغطية الغربية للمذبحة التي ارتكبتها حركة حماس ضد الإسرائيليين في السابع من أكتوبر الجاري، فضلاً عن علاقات إسرائيل التاريخية مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا”.

لكنه يوضح أن الموضوعية والتوازن أمراً مختلفان، قائلاً “قد لا تكون الموضوعية في مواجهة الموت موجودة، لكن التوازن أمر بالغ الأهمية في عمل الصحافي، وكذلك في تناول كل ما يختص بالضحايا الأبرياء إذ إن عليه التزام الدرجة نفسها من التعاطف. كصحافي، أنت هناك لتشهد، لا لتتحيز لطرف بعينه في الصراع”.

غبار الحروب

يشير بينتاك إلى أنه غطى عشرات المجازر وأحداث العنف الذي لا يوصف من جنوب أفريقيا إلى أحياء بيروت الفقيرة، ويذكر أنه “في الساعات الأولى من وقوع الكارثة، تكون الأولوية والحاجة ماسة لنقل الأخبار العاجلة. السياق والتحليل يأتيان في وقت لاحق. في ضباب الحرب، حين يتم العثور على جثامين، وتجري مقابلات مع الناجين والمكلومين، لا يكون الوقت مناسباً للحديث عن التاريخ”.

ويرصد في ضوء الحرب الدائرة بين غزة وإسرائيل حالياً حدوث تغيير واضح، إذ “يجد أن الغضب في وسائل الإعلام الغربية تحول من التركيز الكامل على الضحايا الإسرائيليين وحدهم، إلى محنة المدنيين الفلسطينيين تحت القصف الإسرائيلي في غزة. كما بدأ التحليل والنقاش حول التاريخ المؤسف الذي أدى إلى المأساة الحالية”.

حياد الإعلام المشكوك فيه

المأساة الحالية تشبه نسبياً ما سبقها من مآسٍ متكررة في غزة وغيرها من الأراضي الفلسطينية في ما يختص بـ”حياد” الإعلام المشكوك فيه و”موضوعيته” المعيوبة في نظر كل طرف على حساب الطرف الآخر، وإذا كانت الشكوك حول الموضوعية أكثر من الحياد تطل برأسها في الحروب والصراعات، فإنها تطل بكامل هيئتها كلما كان موقع الصراع وموضوعه فلسطينياً- إسرائيلياً.

يقول بينتاك إن تغطية الصراع العربي- الإسرائيلي عادة تكون انتقائية ويتم تأطير القصص الصحافية بطريقة مضللة، أو تختفي وجهات نظر بعينها عمداً. لكنه في الوقت نفسه، يلحظ هذه المرة، لا سيما بعد بدء القصف الإسرائيلي المتصاعد لغزة أن الأمور تغيرت للأفضل وأن قدراً أكبر من التوازن تحقق.

وعلى رغم ذلك، فإن بينتاك لم يتطرق كثيراً إلى المصطلحات المستخدمة وما تعنيه، فمثلاً اعتبر نشر مقالتي رأي جنباً إلى جنب في “نيويورك تايمز” التي يقول إنها متهمة تاريخياً بالتحيز لإسرائيل، الأول عن “كيف أثرت المجزرة في المجتمع الإسرائيلي؟” والثاني عن “أثر العنف على الأطفال في غزة” مثالاً على الموضوعية والتوازن، لكن بقيت “المجزرة” التي ارتكبتها “حماس” في مقابل “العنف” الذي تمارسه إسرائيل.

عنف أم مجزرة؟

“العنف” في مقابل “المجزرة”، و”الإرهاب” رداً على “المقاومة”، و”الكيان الصهيوني” هنا و”دولة إسرائيل” هناك، و”العاصمة تل أبيب” تارة “وعاصمة الكيان المحتل” تارة أخرى، ومطالبات “الإخلاء” تفسر بأنها قرارات تهجير، و”اليهود” في مواجهة “المسلمين”، والتأرجح تارة بين “أسرى” و”رهائن”، والتساؤل إن كانت “أوكار إرهابيين” أو “مخابئ أبطال المقاومة”، والمعركة المحتدمة حول من يطلقون عليهم “أبطالاً” ومن يطالبون بتسميتهم “إرهابيين” جزء من المعركة الحالية.

“بي بي سي” نشرت قبل نحو أسبوع مقالة لمحرر الشؤون الدولية جون سيمبسون يجيب فيها عن سؤال يبدو أنه غزا أثير هيئة الإذاعة البريطانية “لماذا لا تصف بي بي سي مسلحي حماس بـ’الإرهابيين‘؟”، وكتب أن “وزراء الحكومة وكتاب الأعمدة في الصحف والناس العاديون، جميعهم يتساءلون لماذا لا تصف (بي بي سي) مسلحي حماس الذين هاجموا إسرائيل والإسرائيليين، بـ(الإرهابيين)”، مشيراً إلى أن السبب يعود لمبادئ “بي بي سي” التي تعتبر أن الإرهاب كلمة مشحونة يستخدمها الناس لوصف جماعة لا يوافقون عليها أخلاقياً، وليست مهمتها أن تقول للناس من يجب أن يدعموا ومن يجب أن يدينوا، ولفت إلى أن الحكومات البريطانية والحكومات الأخرى دانت “حماس” باعتبارها منظمة إرهابية، “ولكن هذا شأنها”، موضحاً أن عمل الصحافيين هو تقديم الحقائق للجمهور وتركه يتخذ قراره بنفسه.

وقال سيمبسون إن أي شخص عاقل سيشعر بالفزع لدى رؤية ما جرى (على يد حماس)، معتبراً أن وصف ما جرى بـ”الفظائع” هو التصنيف الصحيح.

وتطرق سيمبسون إلى خبرته لمدة خمسة عقود في تغطية أحداث الشرق الأوسط، فقال إنه رأى بنفسه “آثار هجمات مثل تلك التي وقعت في إسرائيل، وأيضاً آثار الهجمات بالقنابل والمدفعية الإسرائيلية على أهداف مدنية في لبنان وغزة”، منوهاً أن مثل هذه المشاهد “المرعبة” تبقى في الذاكرة للأبد، لكنها لا تعني أيضاً وصف “حماس” بالمنظمة الإرهابية، حفاظاً على واجب بقاء الصحافي موضوعياً.

وأضاف، “نحن لا ننحاز إلى أي طرف، لا نستخدم كلمات مبطنة مثل ’الشر‘ أو ’الجبان‘، لا نصف أي مجموعة بـ’الإرهابيين‘، لسنا الوحيدين الذين يتبعون هذا الخط، لدى بعض المؤسسات الإخبارية السياسة نفسها تماماً”.

معضلة الإعلام العربي

في المقابل، يواجه الإعلام العربي معضلة أكبر، إذ هناك شبه استحالة الحياد الذي يصفه متلقون حالياً بـ”الخيانة”. أما الموضوعية، فلا تتخطى تغطية تفاصيل وآثار ونتائج العمليات العسكرية الإسرائيلية من دون نعوت، وبالنسبة إلى تغطية تفاصيل وآثار ونتائج “السيوف الحديدية” فهي معضلة حقيقية، إذ إن هذا الكم المذهل من القتلى المدنيين والدمار وشبح الجوع والتهجير يصعب التعامل معه من دون نعوت.

تحدٍّ رهيب يواجهه المراسل والصحافي والمعد وكاتب التقرير الخبري وهو يشق طريقه على الخيط الرفيع والملتهب الفاصل بين التعاطف مع “الضحايا” والتعبير عن المشاعر الشخصية والوطنية والعربية تجاههم، وبين التعامل معهم مثل أرقام أو أخبار، وكذلك في وصف والتعامل مع من نفذوا العمليات التي أدت إلى “مقتل” أو “استشهاد” الضحايا.

الخبر حين يتحول خطبة احتجاجية

المهنية تقول إن الخبر حين يتحول إلى خطبة احتجاجية أو رثاء مؤثر أو حتى ورقة ضغط لتوضيح “القضية” من وجهة نظر المنصة الإعلامية أو العاملين فيها، فإن المنصة والمراسل يفقدان المصداقية والقدرة على التأثير، لكن حجم ما يجري حالياً على يد دولة “احتلال” تجاه سكان “مدنيين عزل”، وعمليات تطهير غزة عبر “تهجير أهلها قسرياً” و”إبادة من يتبقى منهم” وتحذير سكان شمال غزة بضرورة إخلاء منازلهم بغرض “دفعهم إلى وطن بديل” والجهود “الصهيونية” لمواجهة المقاومة “الجهادية” وفي أقوال أخرى “الإسلامية” تضع “حرب القطاع” في موقف لا تحسد عليه في حرب المصطلحات.

إنها الحرب التي يجد فيها المحايد نفسه “عميلاً” أو “خائناً”، والموضوعي “منبطحاً” و”صاغراً”، وشارح التاريخ “مضللاً” و”مفسداً”، ومحلل الحاضر “متحيزاً” و”منقاداً”، ومستشرف المستقبل “متشائماً” بشهادة الواقفين على جبهتي “حرب القطاع”، ولا يفصل بينهما سوى خيط مفخخ رفيع.

اندبندنت

مقالات ذات صلة