القوات وحزب الله يتعاطيان إستراتيجياً مع الرئاسة… والتيار في بازار داخلي!
انتقل ملف الرئاسة بالكامل من لبنان إلى خارجه. لم يعد قرار انتخاب رئيس للجمهورية أقل من قرار إستراتيجي، تتعامل معه العواصم الخمس زائداً طهران على هذا النحو، كما هي حال بعض أطراف الداخل، تحديداً حزب الله والقوات اللبنانية..
منذ أن بدأ نقاش انتخابات رئاسة الجمهورية واختيار المرشحين، إلى أن طبعت المراوحة الملف الرئاسي بعد فشل المبادرة الفرنسية، وما رافقها من حراك قطري وتدخّل اللجنة الخماسية، يمارس حزب الله والقوات اللبنانية الأسلوب نفسه في التعاطي مع ملف الرئاسة. الطرفان يتقاطعان عند نقطة أساسية: كلاهما يفكر في الرئاسة ويتعاطى معها إستراتيجياً.
فانتخابات الرئاسة، بعد ما أفرزته الانتخابات النيابية والحراك العربي وتداخلات المنطقة بكل تفاصيلها، من سوريا إلى العراق، وعلى أبواب التطبيع السعودي مع إسرائيل، صارت تحمل عناصر تتقدّم على تلك التي كانت تحملها انتخابات ما بعد الخروج السوري من لبنان وتكريس دور حزب الله في المشهد السياسي كمقرر أساسي، كما في انتخاب العماد ميشال عون. ولم يعد الطابع المحلي والنقاشات بين الكتل النيابية وتبادل أسماء المرشحين أموراً مهمة في الانتقال إلى المرحلة الجديدة. كلا الحزبين صارا أكثر تمسكاً بمفاعيل ما تمثّله انتخابات الرئاسة ومصير موقع الرئيس في تقاطعات المنطقة، بعدما أصبح ملف الرئاسة بكامله في أيدي عواصم الخماسية وطهران. وعلى عكس هذين الطرفين، لا تزال القوى السياسية الأخرى تتعاطى مع ملف الرئاسة على أنه بازار داخلي، وعلى رأسها التيار الوطني الحر. فالأخير بات يتصرف وكأنه يدافع عن نفسه إزاء العهد الجديد، بمعنى تأمين حمايته السياسية في المرحلة المقبلة. وأداؤه الأخير يعكس تعارضاً بين موقع الناخب الأول، ومن يفتش عن دور مضمون في مرحلة الخيارات الرئاسية، بحيث ينقذ تياره وموقعه، لتصبح حماية التيار أقوى من هاجس الرئاسة في ذاتها.
حاول حزب الله، في المرحلة الأولى، إعطاء الانتخابات طابعاً محلياً – أمنياً يتعلق بالحفاظ على حلفائه، وأولاً وآخراً حماية ظهر المقاومة «محلياً»، وكان في كل مرة يدعو إلى تخطي فكرة الحوارات الإقليمية وعدم انتظار التفاهمات الدولية. وتعاملت القوات كذلك مع الانتخابات، إلى حد كبير، على أنها محلية، آخذة في الاعتبار مشروع المواجهة مع حزب الله وحلفائه، ونافية أي تأثيرات سعودية أو أميركية في خيارها أو أسلوب إدارتها للمعركة الانتخابية. لكن ما حملته جلسة 14 حزيران من تقاطعات خارجية، وعودة الحضور السعودي من دون قرار واضح حول شكله النهائي، وما أعقب ذلك منذ لقاء الدوحة وبعده لقاء نيويورك، واستعادة التوازن داخل الإدارة الفرنسية نتيجة خلافات داخلية حيال أزمة لبنان الرئاسية… مهّدت الطريق لحزب الله والقوات لوضع الرئاسة في مكان مختلف عما تفعله القوى الأخرى.
كان فشل المبادرة الفرنسية متوقّعاً، وإن كانت لدى الرئيس نبيه بري والحزب، في المرحلة الأولى، انطباعات خاطئة عن احتمال نجاح الضغط على التيار الوطني الحر لتمرير انتخاب سليمان فرنجية. لكن مع خروج فرنسا، والتحرك القطري نحو خيار ثالث، استعاد حزب الله زمام المبادرة قاطعاً الطريق على أي احتمالات تردّد أن الرئيس بري – رغم أنه عرّاب تسمية فرنجية – قد يكون في وارد النقاش حولها. وفي المقابل، حافظت القوات على مسار الخطوات الحذرة في فتح الباب مشرّعاً أمام مبادرات يُفهم منها أنها قد تدوّر الزوايا حتى بالنسبة إلى ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون الذي سبق أن قالت رأيها فيه، إلا أنها في الوقت نفسه وضعت انتخابه في الأطر الخارجية. وبقدر ما أن فكرة الخيار الثالث مطروحة منذ أشهر، إلا أنها أخذت موقعها أخيراً في مكان ما بين الدوحة وباريس. رغم أن معلومات رشحت من لقاءات عقدها القطريون أخيراً، جزمت بأن هؤلاء لم يدخلوا مطلقاً في أي لائحة أسماء في نقاشاتهم على مستوى الصف الأول. واللائحة المتداولة منبعها محلي على أكثر من مستوى، تداخلت فيه عناصر محلية وخارجية، تعكس رغبة بتضييع بوصلة النقاش وتوجيه رسائل حول خفض مستوى التعامل مع الرئاسة الأولى، فيما الأسماء الأكثر جدية غير متداولة. لكنّ الثابت في ما حصل من همروجة رئاسية، أن باريس والدوحة تتعثّران رئاسياً، وأن واشنطن والرياض لم تقولا كلمتهما مطلقاً، وما إضاعة مزيد من الوقت إلا إثباتٌ بأن الملف الرئاسي تحوّل حكماً إلى أيدي صناع القرار في الخماسية، إضافة إلى قيام طهران بدور أكبر بقوة.
لذا كان من الطبيعي أن يصبح حزب الله والقوات أكثر حزماً في عكس موقفيهما ونقل النقاش الرئاسي إلى مكان آخر. والقوات سبق أن وقفت في وجه باريس في المبادرة المنتهية صلاحيتها، وفي رفض الحوار، ومرشح خيار ثالث من دون أفق. وحزب الله يعيد إلى الرئاسة تشعّباتها الإقليمية، فيعكس مشروعاً سياسياً لا مجرد تسوية برعاية خارجية. وما يزيد من قناعة الطرفين بضرورة التعامل إستراتيجياً مع رئاسة الجمهورية أن أصحاب القرار الفعليين لم يحسموا خيارهم في ما يريدونه للبنان، وليس لرئاسته فحسب.
هيام القصيفي- الاخبار