إكذب تربح”… في “نتفليكس”!
“إكذب تربح”: برامج المسابقات في عالم ما بعد الحقيقة
ربما تكون صفات مثل الكذب والكسل والخداع، مكروهة ضمن سيستم الأخلاق الاجتماعية عموماً لكنها باتت في السنوات القليلة الماضية خصائص مطلوبة للفوز في برامج المسابقات وبرامج تلفزيون الواقع التي تنتجها شبكات واستوديوهات عالمية وتبث حول العالم، بشكل يختلف جذرياً عما كانت عليه البرامج نفسها قبل نحو عقدين من الزمن، عندما كان امتلاك المعلومات العامة أو المواهب الاستثنائية في فنون كالطبخ والموسيقى تحديداً مؤهلاً للحصول على الثروة السريعة.
في “نتفليكس” وحدها مجموعة من برامج المسابقات الأميركية والبريطانية والكورية، تتشارك كلها الترحيب بالصفات التي تحمل صفة سلبية بشكل عام من أجل الفوز بمبالغ مالية، لم تعد مليونية كما كانت عليه قبل سنوات بل باتت أقل بكثير مع شروط جماعية عادة حيث يتشارك كافة المتسابقين في الإضافة لمبلغ الجائزة النهائي عبر خطوات سواء ضمن حلقة واحدة أو ضمن سياق البرنامج ككل. وضمن هذا السيستم يتم خلق جو مشحون بالتوتر لأن المتسابقين أصدقاء وأعداء في الوقت ذاته، ويجب عليهم العمل معاً وضد بعضهم البعض، لا لضمان الربح بل لخلق إمكانية لفوز أحدهم، لا أكثر.
في برنامج “Cheat” البريطاني يتم طرح صيغة كلاسيكية للمسابقة يجب بموجبها تقديم الإجابة الصحيحة للأسئلة الصعبة. لكن بإمكان اللاعبين الغش سراً عبر أزرار خفية في شاشاتهم بشرط ألا يتم اكتشافهم من قبل اللاعبين المنافسين. وكل سؤال صحيح يضيف لمبلغ الجائزة النهائي، أما الإجابة المغشوشة فلا تضيف لمبلغ الجائزة شيئاً بينما يعطي كشف الكذب اللاعب نقاطاً للتقدم في مراحل التصفية.
وفي برنامج “Bullshit” الأميركي المشابه، يمكن للاعبين الكذب والاسترسال في الكذب ليس فقط عند تقديم الإجابات على الأسئلة الصعبة، بل عند مواجهتهم من قبل الخصوم لتفسير اختيار إجابة ما بدلاً من إجابة أخرى، والذين ينتظرون من أجل إطاحة المتسابق الذي يجب عليه إقناع شخص واحد فقط بأنه يقول الحقيقة حتى لو كان كاذباً.
بشكل مشابه يبرز برنامج “The mole” الذي أعادت “نتفليكس” إحياءه عن برنامج بالاسم نفسه، تم عرضه مطلع الألفية في أستراليا ولم ينتشر بقدر انتشاره اليوم. وفيه يتواجد عميل لفريق الإنتاج مهمته تخريب جهود بقية اللاعبين الذين يجب عليهم خداع بعضهم البعض كي لا يتم إقصاؤهم في عملية تصويت تجري في نهاية كل حلقة يعطي فيها كل مشارك توقعاته حول هوية المخبر الذي يتواجد قطعاً حتى الحلقة الأخيرة.
وفي السلسلة الكورية الجديدة “The Devil’s Plan” يبدو للوهلة الأولى أن هناك تجمعاً للأشخاص الأذكياء الذين يتنافسون في ألعاب ذهنية مختلفة، لكن متابعة الحلقات تكشف أن اللاعبين يتنافسون من أجل التخطيط ورسم الاستراتيجيات لإطاحة بعضهم البعض في نهاية المطاف ضمن توازن دقيق تحكمه علاقات يتم تكوينها بسرعة مع الخصوم، الذين يكذبون بالطبع، فيما تضم المسابقة نفسها ألعاباً تقوم على الخداع والكذب، بشكل مشابه للعبة الإلكترونية الشهيرة “Among us”.
لا تروج هذه البرامج للصفات السلبية بقدر ما هي احتفاء بالطبيعة البشرية نفسها ربما، ضمن سياق محدد يقوم على “الصراع من أجل البقاء”، لأن أي إنسان يكذب على أساس يومي مستمر، سواء في الإنترنت أو اللقاءات الشخصية وفي المحادثات القصيرة مع الغرباء: “كيف حالك اليوم؟.. بخير شكراً”.. وفي الردود على البريد الإلكتروني وفي تقديم الشخص لنفسه في تطبيقات المواعدة مثلأ. وقد يكذب الإنسان على نفسه أو قد يتجنب قول الحقيقة أو قد يجمل الواقع أو يبالغ فيه أو يلقي بالشكوك على وقائع لا يمكن إنكارها، وغير ذلك من سلوك يحمل صفة الكذب مهما كان ذلك مكروهاً ويحمل صفة سيئة.
وفي العام 2012 نشر الباحث دان أريالي وزميله ييل ميلاميد، ورقة بحثية لنتائج تجربة علمية وثقاها أيضاً في فيلم وثائقي، حول “النزاهة” كمفهوم مجرد غير قابل للقياس، وتقوم على إعطاء مجموعة من المسائل الرياضية للأفراد من أجل حلها مع مبلغ مالي لكل جواب صحيح. ومع نهاية الوقت المحدد يقوم المشاركون في التجربة بوضع أوراق إجاباتهم في جهاز تمزيق الأوراق قبل أن يفصحوا عن عدد إجاباتهم الصحيحة. ما لم يعرفه المشاركون في التجربة أن الأوراق لم تمزق بل كانت توضع سراً في صندوق لدراسة مدى صدقهم لاحقاً. وتبين أن 70% من الأفراد كذبوا، لكن اللافت أن الكذب لم يكن كبيراً، حيث كان معدل الإجابات الصحيحة 4 مقابل الكذب بإيجاد الحل الصحيح لـ6 منها رغم أنه كان بإمكانهم الكذب بشكل أكبر بكثير، ما يتم تفسيره بأنه محاولة لعدم إثارة الشبهات.
والسؤال الذي يطرح هنا هو لماذا يكذب الإنسان أو لماذا يغش؟ طالما أن تلك الصفات منذ آلاف السنين تبدو منبوذة ومكروهة وتحضر في النصوص القديمة والوصايا الدينية والكتب الأدبية وغيرها بشكل يتسلل إلى أسس التربية الحديثة في المنازل والمدارس. ووفيما يتم تفسير تلك الخصائص في الأديان مثلاً بأنها من جذور الشر وعمل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وغيرها من العبارات الماورائية، فإن تفسيرها الفعلي قد يأتي من علوم البيولوجيا والأنثروبولوجيا عبر التطور البشري وكيف نشأ الإنسان أصلاً.
ولا يفسر التطور فقط الصفات البيولوجية للكائنات بل أيضاً الصفات النفسية. ويعني ذلك أن الإنسان تطور كي يكون كاذباً، أو على الأقل قد يكون قادراً على الكذب لأن الكذب نفسه مفيد في الواقع، كما أنه يتواجد في الطبيعة بأشكال مختلفة لدى كائنات أخرى، كالزهور التي تموه نفسها لاجتذاب أنواع معينة من الحشرات أو الفيروسات التي “تكذب” على نظام المناعة في نوع من الخداع على المستوى الخلوي للوجود نفسه! حسبما يقول باحثون يكررون أن الإنسان يتقن الكذب أكثر من أي كائن آخر بسبب امتلاكه للغة.
وعادة ما يتم تفسير الكذب، خصوصاً ما يسمى “الكذب الأبيض” غير المؤذي، بأنه سلوك يهدف إلى حماية الأخرين أو حماية الذات من الحقيقة نفسها، وهو ما يظهر بوضوح في برامج المسابقات اليوم التي تضع الإقصاء من البرنامج وخسارة الأموال التي لا تفيد المتسابق فقط، بل عائلته مثلاً، كمصير محتوم يتربص بالخاسرين ممن لا يتقنون اللعب بمهارة. لكن ذلك لا يتم بشكل غير واع كما هي تلك الأكاذيب الصغيرة في الحياة الواقعية، كأن يكذب الشخص حول سبب تأخره عن الوصول إلى عمله مثلاً وتبريره بازدحام المواصلات بدل قول الحقيقة كالتاخر في النوم، لتجنب الإحراج. بل يتم بشكل واع عبر رسم مخططات، لا تماثل الخطط الإجرامية بل تتماهى معها فقط في الشكل وتختلف في النتيجة.
ورغم أن الكذب جزء من السلوك البشري إلا أن كشفه ليس كذلك، بل يبدو الإنسان وكأنه يميل لتصديق ما يقال له على الفور، قبل التشكيك به. وذلك يعود للتطور وكيف نشأ الإنسان القديم في بيئة عدائية لو سمع فيها الشخص صوتاً مريباً يجب عليه أن يعتقد ويصدق بأنه عدو مفترس، حتى لو كان ما يسمعه هو صوت الرياح فقط، لأن النتيجة قد تكون الموت في حال كان ذلك الصوت فعلاً آتياً من خطر داهم. وعليه، فإن من صدقوا ما تخيلوا أنهم سمعوه، نجوا بنسبة أكبر من أولئك الذين التزموا بالحقيقة وماتوا بالنتيجة. وفيما يحمل الإنسان المعاصر نفس الدماغ الذي حمله الإنسان القديم الناجي، فإن البيئة والمعرفة والظروف من حوله تغيرت بشكل كبير، وهو ما يخلق التناقض حول رؤية الكذب من مفهوم اجتماعي، خصوصاً إن كان سلوكاً يقود للإضرار بالآخرين، أو يتم استثماره لغايات أكبر على المستوى السياسي.
وعليه، فإن الموجة الجديد لبرامج المسابقات التي تحتفي بكل ما هو سلبي باعتباره مهارة، قد لا تكون مجرد رغبة في اجتذاب المشاهدين فحسب، بقدر ما تعكس واقعاً اقتصادياً واجتماعياً يومياً، حيث المنافسة الشديدة على فرص العمل والضغوط المعيشية اليومية في عالم مضطرب يزداد فيه الأغنياء غنى فيما يراوح أفراد الطبقة الوسطى مكانهم في أفضل الأحوال حتى لو ارتقوا في السلم الوظيفي. ويتضافر ذلك مع أن المشاركين والجمهور على سواء هم من جيل الألفية تحديداً التي تشير استطلاعات رأي نشرتها وسائل إعلام أميركية، إلى أنهم الأكثر ميلاً للكذب، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالسير الذاتية والفرص المهنية.
يخلق ذلك بين المتنافسين في البرامج جواً من التفهم للأكاذيب والخدع لأن الحياة نفسها صعبة وكل فرد يجب أن يقاتل من أجل نفسه في نهاية المطاف، على اعتبار أن الجميع يتشاركون واقعاً واحداً، نظرياً على الأقل، لأن بعض البرامج لا تستقطب سوى نجوم مواقع التواصل أو المحترفين من الشخصيات التي تنتقل من برنامج إلى آخر لاجتذاب الشهرة التي تعني مزيداً من المتابعين في مواقع التواصل وبالتالي مزيداً من النجاح في ذلك العالم حيث الإعلانات وعقود الرعاية.
هذه النزعة قد تكون جزءاً مما هو أوسع من برامج الترفيه، وتتمحور كلها حول معنى الحقيقة اليوم في عالم بات فيه الكذب الممنهج سلاحاً. يمكن رؤية ذلك بوضوح العام 2017 الذي شهد اختيار قاموس “كولينز” عبارة “الأخبار المزيفة” (Fake News) ككلمة العام، ليس احتفاء بالكذب بل كتحذير من خطورته على المجتمعات الديموقراطية، حيث انتشر المصطلح بفضل كثافة استخدام الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لها، عند استهدافه لوسائل الإعلام المستقلة، رغم أن المصطلح نفسه يعني الأخبار التي تنقل أو تتضمن معلومات كاذبة أو ملفقة أو مضللة عن عمد، وليس المعارضة للسلطة، وتحديداً تلك النوعية التي كانت تنشرها جيوش إلكترونية روسية للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية العام 2016.
عالم ما بعد الحقيقة (كلمة العام 2016 في قاموس “أوكسفورد”).. هذا ليس مقتصراً على نقاشات شديدة الجدية مثل التغير المناخي وجائحة كورونا، بل بات حاضراً في التفاصيل اليومية عند تصفح “أنستغرام” أو مشاهدة برنامج لتلفزيون “الواقع”. لا شيء يبدو كما هو عليه وكل شيء يتراوح بين الوهم والحقيقة ويقبع في منطقة رمادية. وفي “نتفليكس” حتى مسابقات الطبخ صارت كذلك أيضاً في برامج مثل “is it cake” حيث يصنع الطباخون المهرة كعكاً يماثل أشياء أخرى لخداع لجنة التحكيم، أو في برامج التجميل مثل “Glow up” حيث تتفوق البودرة والألوان على المؤثرات البصرية نفسها.
وليد براكسية-المدن