الصندوق الائتماني: “بيت مال” الطبقة السياسية الجديدة… و”زبائنيتها”!
بلا مواربة وبموقف كامل الوضوح قالها رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل للحزب: “الصندوق الماليّ الائتماني واللامركزية الموسّعة مقابل التنازل عن اسم الرئيس لستّ سنوات”.
هي المفاوضات الأكثر جدّية بين الحزب والتيار الوطني الحرّ في إطار المساعي للوصول إلى تفاهم رئاسي. خلال زيارته الثانية لعين التينة في ختام جولته تبلّغ المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان من الرئيس نبيه برّي بأنّ المساعي الداخلية قد تكون منجزة في حلول شهر أيلول. قال برّي للودريان بالحرف: “اذهب واقضِ إجازتك، ولدى عودتك سنكون قد توصّلنا إلى اتفاق إطار يتّصل بالانتخابات الرئاسية”.
في المفاوضات المستمرّة بين الحزب وباسيل، سلّم الأخير ورقة تتضمّن مشروعاً مكتوباً للصندوق الائتماني. هي حكاية لبنانية متجدّدة مع الصناديق. كان الصندوق في الأساس مشروعاً لثلاثة صناديق صبّت في النهاية في صندوق واحد. كانت هذه الصناديق من أساسيات التفاوض بين التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل، وارتكز الاتفاق على انسجام بين الطرفين، وعلى “شبابيّتهما” في مواجهة كلّ الكهلة الآخرين. فكان المشروع بينهما الذي حظي برعاية دولية يقضي بالوصول إلى ما وصلت إليه البلاد على الرغم من سقوط مقوّمات تلك التسوية وانفضاض التحالف.
انهارت التسوية… واستمرّ المشروع
كانت التضحية بكلّ شيء مبرّرة لصالح تلك الاتفاقات. بين عامَي 2018 و2019 توتّرت العلاقات إلى حدود بعيدة بين تيار المستقبل وحلفائه التقليديين، وهو ما دفع وليد جنبلاط إلى إبداء التخوّف من “البنود السرّية” للتسوية الرئاسية. من بين هذه البنود، كانت مشاريع عديدة مثل “إنشاء ثلاث شركات مشابهة لشركة سوليدير” تعمل على إدارة المرافق العامّة والقطاعات المنتجة والمصارف. جزء من هذه المشاريع كان قائماً في نتائج مؤتمر سيدر: شركة تتولّى إدارة المرافئ والمطار والأملاك البحرية والنهريّة، وشركة أخرى تعمل على إعادة هيكلة القطاع المصرفي ودمج مصارف بعضها ببعض وإدخال عناصر مصرفية خارجية، وشركة ثالثة يطلَق عليها اسم الصندوق السيادي لإدارة قطاع النفط والغاز بعد عمليات الاستخراج والتصدير.
انهار التحالف بين الجانبين، على وقع ثورة 17 تشرين. تجمّعت كلّ العناصر المتمّمة للانهيار الذي كانت مؤشّراته واضحة منذ ما قبل التسوية الرئاسية إلى ما بعدها. بسقوط التسوية لم يسقط المشروع، بل استمرّ، وقد جرى تجميله برفع شعارات الثورة ونضالات اللبنانيين للحصول على أموالهم وحقوقهم، فكانت الحرب مع المصارف والمصرف المركزي، وهو ما يصبّ في سياق المشروع، أي تدمير القطاع وإعادة هيكلته، بالإضافة إلى تعميم حالة التحلّل على كلّ القطاعات والإدارات والمؤسّسات في سياق إعادة تركيبها أو هيكلتها.
الصناديق الثلاثة أو الشركات استحالت صندوقاً يسمّى حالياً الصندوق الماليّ الائتماني. وهي عبارة عن إعادة إنتاج سياسة الصناديق، بعد الهجوم على صناديق أخرى مثل مجلس الجنوب، صندوق المهجّرين، ومجلس الإنماء والإعمار. يتضمّن المشروع الجديد أن تتولّى شركة مساهمة إدارة كلّ المرافق العامّة والقطاعات المنتجة في البلاد، بما يشبه نموذج الخصخصة، الذي كانت تتمّ معارضته في السابق من قبل التيار الوطني الحرّ والحزب، في معرض الهجوم على الحريرية. وها هما اليوم يعودان إليها.
في موازاة الحديث عن الصندوق المالي الائتماني، الذي يفترض به أن يوفّر سدّاً للفجوة المالية، وأن تتمّ جدولة إعادة أموال المودعين على مدّة زمنية طويلة نسبياً من الأرباح التي سيحقّقها، تظهر بعض العقبات التي تقف أمامه، ومنها التضارب في الصلاحيّات بينه وبين وزارة المالية. وهي تمثّل التوقيع الرابع بالنسبة إلى الطائفة الشيعية التي أصبحت ممسكة بكلّ القرار الماليّ في البلاد، من وزارة المال، إلى حاكمية المصرف المركزي، والمدّعي العامّ المالي، ورئيس ديوان المحاسبة.
قد تتحوّل وزارة المال إلى خزنة دفع الرواتب والأجور ومصاريف الوزارات والإدارات، فيما سيكون الصندوق الائتماني لما هو أكبر وأبعد من ذلك. وبينما سيبقى الصندوق السيادي مشروعاً قائماً مخصّصاً لإدارة قطاع النفط والغاز، تستمرّ المفاوضات في ماهيّة هذا الصندوق، وسط قناعة لبنانية بأنّ أيّ تسوية عاديّة لا يمكن أن تُنتَج في البلاد من دون الاتفاق على صيغة كاملة متكاملة لآليّة تركيب السلطة وإدارة مواردها.
هذا الصندوق في الخلاصة هو “بيت المال” لأيّ تسوية مقبلة. تماماً كما كان مصرف لبنان والقطاع المصرفي والودائع هي “بيت المال” الذي استنزفته الحكومات في العقدين الأخيرين. ولن تكون تسوية من دون تأمين “الأموال” اللازمة لبناء هيكل السلطة الجديدة، وآليات “زبائنيتها”.
خالد البواب- اساس