هل تأقلم اللبنانيون مع أزماتهم؟
من ينظر إلى المشهد السائد في لبنان، يرى صيفاً حافلاً بالمهرجانات والاحتفالات وأماكن سهر ومطاعم ومسابح مكتظة لا مكان شاغراً فيها، وتوحي الأجواء السائدة، بكل ما فيها من ترف وبذخ، بالانتعاش الإقتصادي، بأن البلد والمواطن بألف خير، وكأن الأزمة الاقتصادية وتداعياتها أصبحت من الماضي، وتعطي تقديرات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أرقاماً مقلقة تؤكد عجزاً وانهياراً قد يصعب الخروج منهما في المستقبل القريب مع ما يقارب نسبة 50 في المئة من المواطنين دون خط الفقر، وثمة مفارقة غريبة هنا تثير التساؤلات حول ما إذا كان المواطن اللبناني قد تأقلم فعلاً مع ظروف الأزمة واستطاع تخطيها ومتابعة حياته المعتادة كما قبل الأزمة، بالنظر إلى ما ينفقه من أموال طائلة على الكماليات، أم أنه مشهد مزيّف لا يعكس الحقيقة بوجود شريحة كبرى من المواطنين ترزح فعلاً تحت أعباء الفقر والأوضاع المعيشية الصعبة؟
تأقلم متعدد الأسباب
من بداية الأزمة، بدا المواطن اللبناني مرغماً على التخلي عن نمط حياته المعتاد الذي يغلب عليه البذخ والترف، ولم تكن الظروف السائدة في ظل الأزمة تسمح له بمتابعة هذا النمط مع تراجع قيمة الأجور والعملة الوطنية مقابل الارتفاع الجنوني في سعر الدولار، مع كل ما ترافق مع ذلك من ظروف معيشية صعبة، وحاول المواطن، في السنوات الماضية، التأقلم بشتى الوسائل ليؤمن نوعية عيش أقرب ما اعتاد عليها، لكن شيئاً فشيئاً، بدا أن المشهد السائد لا يعكس واقع الأزمة، ولا كل ما يحكى حول معدلات الفقر ومعاناة الشعب في مواجهة الوضع المعيشي الصعب والأزمات المتتالية التي لم تتأمن حلول لها.
وبلغت أسعار بطاقات في حفلات آلاف الدولارت وحضرها 10 آلاف مشاهد، كما أن المهرجانات حافلة وأماكن السهر مكتظة على رغم أسعار التذاكر، أما المطاعم فلا أماكن شاغرة فيها طوال أيام الأسبوع وكذلك المسابح التي تقصدها العائلات غير متأثرة بالأعباء. هذا كلّه يوحي أن المواطن تخطى الأزمة وتأقلم معها جيداً، لذلك، من الصعب تفسير هذه المفارقة في البلاد، فمما لا شك فيه أن لبنان لا يزال يعاني أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية، لكنها في تراجع واضح بالمقارنة مع ما كانت عليه في بدايتها، بحسب ما أكد الباحث والخبير الاقتصادي محمود جباعي “فساهمت أسباب عدة في تحسن الأوضاع: حجم التحويلات الخارجية التي بلغت 6.5 مليار دولار، إضافة إلى مبلغ يقدّر بملياري دولار سُلّم باليد من المغتربين إلى ذويهم، وأربعة مليارات دولار حصيلة المواسم السياحية، ومليار ونصف مليار من التحويلات إلى الفلسطينيين، إضافة إلى رواتب العاملين في الأحزاب اللبنانية التي تقارب ثلاثة مليارات دولار في السنة”.
وأوضح جباعي أن معظم العاملين في القطاع الخاص يشكلون نسبة 80 في المئة، وأيضاً الجمعيات والمنظمات والأحزاب، كلّها تدفع أجور موظفيها بالدولار الأميركي. وأيضاً، في لبنان 300 ألف مهنة حرة يتقاضى العاملون فيها أجورهم بالدولار الأميركي، بالتالي، ما يمكن تأكيده أن نسبة 60 في المئة من المواطنين تماشت مع الوضع بشكل جيد مع تحسن أوضاعها بفضل مدخولها بالدولار، ونسبة 20 في المئة من المواطنين في حال متأرجحة بين الوضع السيئ والوضع المقبول، في وقت تأتي المساعدات لمساندة كثيرين حتى يتأقلموا مع ظروف الأزمة. مع الإشارة إلى شريحة من اللبنانيين استفادت من تعميمي مصرف لبنان 152، وقد وصل عددهم إلى 180 ألف موظف هم من صغار المودعين، والتعميم 161 الذي يسمح لموظفي القطاع العام بتقاضي أجورهم بالدولار على منصة صيرفة “هذه الأرقام تؤكد أن نسبة 80 في المئة من المواطنين تعيش في نوع من التاقلم مع الوضع الحالي، وإن كانت نسبة التأقلم متفاوتة بحسب إمكانات الفئات فيها. أما القطاع العام، فقد يكون العاملون فيه من أكثر المتأثرين بتداعيات الأزمة، ويواجهون صعوبات في التأقلم معها لأن الأجور صُححت بمعدلات غير كافية لهم، وينطبق ذلك على قسم من العاملين في القطاع الخاص لم تصحح أجورهم بمعدلات كافية”.
تحسّن في النمو الاقتصادي
وأكدت الأرقام أن النمو الاقتصادي في لبنان بلغ نسبة أربعة في المئة بالمقارنة مع اثنين في المئة، العام الماضي، بفضل الأموال التي دخلت البلاد، وهذا لا يعني أن البلاد في حال انتعاش اقتصادي، بحسب جباعي، لكن ما يمكن قوله إن الوضع في تحسن وثمة أجواء من الإرتياح بالمقارنة مع السنوات التي سبقت، يضاف إلى ذلك أن المواطن اللبناني لم يعد يميل إلى الإدخار كما كان يفعل سابقاً، فيفضل الاستمتاع بدلاً من الإدخار ولو أنفق على الكماليات، هذا ما يحرّك العجلة الاقتصادية، ويعزّز النشاط الاقتصادي، ويرفع الناتج المحلي. واللافت الازدهار في البلاد على مستوى المؤسسات السياحية، بحيث فتح 100 مطعم جديد في الموسم السياحي، و200 منتزه سياحي، مع 9000 أو 10000 مؤسسة سياحية جديدة بعد الأزمة، ما يؤكد انتعاش الحركة الاقتصادية بانتظار الحلول الشاملة لنشهد المزيد من الاستقرار والانتعاش في البلاد، وهذا لا يعني حكماً أن لبنان خرج من الأزمة، بل يعكس تأقلم الشعب معها، فلا يمكن الاعتماد على ذلك، وتبرز الحاجة إلى دولة تعمل على توجيه الاستثمار في الطريق الصحيح لوقف التفلت في الأسعار بالسوق، فأسعار السلع ارتفعت بنسبة 40 في المئة بالدولار الأميركي، وثمة حاجة إلى خطة تعافٍ اقتصادي شاملة مع موازنة تستند إلى أسعار حقيقية مع إصلاح ضريبي مناسب، ما لم يحصل حتى الآن، فالضرائب لم تطل بعد الطبقة الميسورة ولا تزال توضع بذهنية خاطئة “أما أرقام صندوق النقد الدولي حول معدلات الانهيار والفقر، فأرفضها لأنها مضخمة ولا تعكس الواقع. فليس صحيحاً أن نسبة 50 في المئة من اللبنانيين من الفقراء. يهدف صندوق النقد إلى استغلال الأزمة ويعتمد أرقاماً تستند إلى القطاع العام الذي لا يشكل أكثر من نسبة 20 في المئة في لبنان”.
مشهد لا يعكس الواقع
لمنسق مختبر الديموغرافيا في مركز الأبحاث في العلوم الاجتماعية شوقي عطيّة نظرة مختلفة إلى المشهد السائد في البلاد، فيشير إلى أنه من حسنات الطبيعة الإنسانية ومن سيئاتها أيضاً أنها تتأقلم مع الأزمات، كما يبدو واضحاً من سلوك اللبنانيين في ظل الأزمة، فمع كل أزمة جديدة، نتوقع رد فعل في وقت يتابع اللبناني حياته وكأن شيئاً لم يكن، مكتفياً بالتذمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فهل السبب في انشغاله في تأمين قوته أو لأنه تأقلم مع الأزمة؟ هو سؤال لا جواب مباشر عليه، بحسب عطيّه، فبالنظر إلى المطاعم والمؤسسات السياحية، يبدو المواطن غير متأثر بالأزمة، لكن ما يراه الناظر وما هو الواقع أمران مختلفان، فعلى رغم اكتظاظ المطاعم وبيع تذاكر الحفلات بالكامل، هذه الصورة لا تنقل الواقع بما أن عدد الأشخاص الذين يرتادون المطاعم لا يشكل إلا نسبة واحد في المئة من مجموع السكان، “ما حصل من أربع سنوات إلى الآن وسّع الهوة الموجودة أصلاً بين اللبنانيين، وأضاف إلى الفقراء طبقة الموظفين في القطاع العام وجزءاً من الموظفين في القطاع الخاص، أما الفئات الميسورة، بخاصة التي تعتمد على عمل خارجي أو عمل في الداخل، فلم تتأثر بالأزمة لأن دخلها بالدولار الفريش (الطازج). كما دخلت طبقة جديدة إلى نادي الميسورين وتتألف من موظفي المنظمات الدولية والمؤثرين على منصات التواصل والتجار والمحتكرين وغيرهم. كل هؤلاء لم يتأثروا بالأزمة وهم محركو العجلة السياسية في البلد”.
من جهة أخرى، في موسم الصيف يتدفق السياح والمغتربون إلى البلد، وهؤلاء هم الفئة الوازنة التي تدفع مئات الدولارات لحضور الحفلات الغنائية، وهم يدفعون ما يُطلب منهم من دون شكوى في المؤسسات السياحية كافة.
انطلاقاً من ذلك، ينتقد عطيّة الوضع الحالي في لبنان حيث يغلب الجشع، فأسعار الخدمات السياحية أغلى من معظم الدول القريبة كتركيا وجورجيا وأرمينيا، وحتى بعض الدول الأوروبية، ما يسهم في إبعاد السياح وتفضيلهم الدول المذكورة، حتى أن المغتربين يقضون نصف إجازاتهم مع أهلهم، والنصف الثاني في تركيا أو جورجيا الأقل كلفة، ما سيلحق الضرر بالقطاع السياحي على المديين المتوسط والطويل، كما أن الارتفاع الكبير في الأسعار خارج الموسم السياحي أيضاً، يحرم اللبناني من استهلاك هذه الخدمات، فيقتصر الموسم السياحي على شهري صيف وشهر شتاء.
بشكل عام، من لم يتمكنوا من التأقلم واستهلاك خدمات السياحة والترفيه هم ذوو الدخل المحدود، وتحديداً من هم من دون دخل ومن هم في القطاع العام، بما أن أعلى راتب في القطاع العام لا يتجاوز 600 دولار في الشهر، فليس باستطاعة هؤلاء ارتياد الحفلات إلا إذا كانت مجانية، ولا حتى مطعم حيث قد تعادل الفاتورة أجر يوم لموظف في القطاع العام.
ويشدد عطيّه على أن هذا وضع شاذ وليس صحياً ويسهم في تعزيز الحقد الطبقي “أصبح المجتمع مؤلفاً من طبقتين بينهما هوّة عميقة، وما النقمة المتفاقمة على النازحين مثلاً إلا نموذج لأن الموظف الذي كان يتقاضى 1000 دولار لم تجذبه يوماً المساعدات التي يتلقاها النازح. أما اليوم، فينظر إلى المساعدات التي يتلقاها النازح على أرضه بغضب لأنها تفوق ما يحصل عليه. فما قد تكون نظرته إلى من يدفع معاشه كاملاً في جلسة واحدة على مائدة غداء؟”.
اندبندنت