مسؤول فرنسي سابق يروي قصة رياض سلامة: لبنان ينزلق الى خطر كبير!!
تسود قناعة لدى بعض الأوساط الفرنسية المسؤولة المتابعة للملف اللبناني حول مهمّة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان، بأنّه لن يتمكّن من إحراز نجاح لأنّ العقدة تكمن في اللاعبين على الساحة السياسية اللبنانية. ونصح بعضهم المبعوث الرئاسي بأن يخفّف من طموحاته وعدم المبالغة، لأنّ الوضع الداخلي اللبناني معقّد بمواقف السياسيين. ورأت هذه الأوساط، أنّ الاجتماع الخماسي في الدوحة أتاح المجال لدفع فرنسا شركائها في المجموعة إلى العودة إلى الاهتمام بلبنان بعدما ابتعدوا عن المشكلة اللبنانية لتعقيداتها المملّة.
إلى ذلك، وقبل أسبوع من خروج رياض سلامة من حاكمية المصرف المركزي اللبناني، تحدث مسؤول فرنسي رفيع سابق، تابع خلال مدة طويلة عمل حاكم البنك المركزي رياض سلامة، إلى “النهار العربي”، شارحاً بالتفصيل ظروف صعود سلامة ثم فشله، ومتوقعاً أن لا يغيّر خروجه من حاكمية البنك المركزي شيئاً، إذ إنّ لبنان مستمر “في نزوله إلى جهنم” مع احتياطي العملات الصعبة الذي انخفض من 40 مليار دولار الى 14 ملياراً، وأن لا يتمكن نائب الحاكم وسيم منصوري من عمل أي شيء، لأنّه كما رياض سلامة مرتبط بالسياسيين، تحديداً برئيس مجلس النواب نبيه بري، وإنّ لبنان سيتحوّل إلى دولة فاشلة état voyou وإنّ الودائع ستذوب ويصبح لبنان دولة مثل الصومال تعيش على أموال لبنانيي الهجرة وعلى المساعدات الإنسانية.
وقال المسؤول السابق، إنّه كثيراً ما نبّه القيادة الفرنسية إلى أنّ كل المؤشرات الاقتصادية في لبنان في ضوء أحمر، وإنّ لبنان ينزلق إلى خطر كبير من دون إقناع الرئاسة الفرنسية التي لم تكن ترغب في الاستماع إلى الحقيقة إذا لم تكن متماشية مع رأيها. كما توقّع مثل الكثير من الأوساط الفرنسية المسؤولة عدم قدرة لودريان على إحراز نجاح في مهمّته.
وروى المسؤول السابق الذي عرف سلامة ونوابه وواكب عمله وأوضاع لبنان المالية، قصّة تسلّم سلامة حاكمية المصرف المركزي عبر الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي عرفه من مؤسسة “ميري لينش” المالية، حيث أودع الحريري جزءاً من استثماراته المالية فيها. وجاء سلامة في 1993 بعد انقسام المصرف المركزي خلال الحرب الأهلية إلى جهتين تابعتين لطرفي الحرب، وكان فَقَد بعد الحرب كيانه المؤسساتي مع غياب آلية الإحصاءات مع غياب شبه تام لمراقبة النظام المصرفي، لأنّ لبنان كان يعيش في اقتصاد نقدي cash economy.
وقال إنّ العامل الأول الذي أتاح صعود رياض سلامة أنّه استطاع إعادة تأسيس المصرف المركزي وإعادة دوره الذي كان يلعبه حتى بداية الحرب الأهلية في 1975. لقد أعاد تكوين آلية الإحصاءات على سبيل المثال، إدخال المؤشر المركّب l’ indicateur composite الذي يتيح النظر في أي اتجاه يذهب النشاط الاقتصادي عبر الاعتماد على نحو 15 مؤشراً. وأعاد تشكيل فرقاء عمل في المصرف. وأتى بنعمان خوري من مؤسسة المعهد الوطني الفرنسي للإحصاءات والدراسات الاقتصادية INSEE وسلّمه إدارة الدراسات حتى 2016.
لقد بدأ سلامة بإنشاء قاعدة جديدة لمراقبة النظام المصرفي مع مراقبة أكثر فعالية وأكثر تطلّباً مما كانت في الحرب الأهلية. وهذا هو الأمر الأول الذي يفسّر الهيبة التي حصل عليها حينئذٍ. الأمر الثاني الذي ساهم في صعود نجمه، اعتباره أنّه أنجز استقرار الليرة ولو أنّ ذلك لم يكن إلاّ جزئياً صحيحاً، لأنّ قيمتها انخفضت في 2003. ولكن في كل الأحوال كانت النظرة إلى سلامة أنّه هو الذي عمل على استقرار الليرة على سعر 1500 مقابل الدولار بعد أن كانت فَقَدت هذا الاستقرار منذ مدة طويلة. وكانت المؤسسات الدولية والأوساط المالية، وحتى الشعب، يعترفون له بهذا الإنجاز. ولكن استقرار الليرة كان أيضاً بمثابة نقطة ضعف، إذ انّه كان في الوقت نفسه عاملاً جيداً وسيئاً.
وسلامة كان مقتنعاً بأنّ عليه أن يُبقي هذا الاستقرار رغم أنّ التضخّم في لبنان كان أكبر مما كان في منطقة الدولار، ورغم أنّ الحسابات الخارجية كانت تشهد تدهوراً مع مرور الوقت. ونقطة الضعف في هذا الإصرار على استقرار الليرة كانت في السياسة الاقتصادية المتّبعة، إذ كانت تشجّع الاستيراد ما يؤدي إلى عجز في الميزان التجاري وزيادة العجز في ميزان المدفوعات. وطالما كان ذلك مموّلاً بالاستثمارات المباشرة جزئياً وبدخول رأس المال من جهة، مشت الأمور. ولكن عندما توقف ذلك ولم يعد لبنان يحصل على أموال من أسواق رأس المال العالمية مثلما حصل في 2016 فالوضع أصبح غير محمول. ورياض سلامة رفض فهم ذلك وشرحه، لذا فشل كحاكم للمصرف المركزي ومعه فشل لبنان.
ولكن ينبغي الإنصاف، برأي المسؤول الفرنسي، وحتى إذا كان الإنصاف صعباً اليوم في جو المشاعر الثائرة، فقد كان الجميع موافقين على ما يفعله سلامة، وليس فقط في لبنان، بل أيضاً في المجتمع الدولي. وينبغي التذكير انّه تمّ إعلانه مرّات عدّة أفضل حاكم مصرفي في الشرق الاوسط.
مشكلة رياض سلامة “ولقد أثرتها معه مرّات عدّة وكنت أتكلم معه بصراحة تامّة”، أنّه عندما جُمّدت الاستثمارات المالية وكان لبنان غير متمكّن من اللجوء إلى الأسواق المالية العالمية، كان أمام معضلة كيف يمكنه إكمال ميزان المدفوعات. فرأى نفسه أمام خيارين: إما اللجوء إلى موجودات المصرف المركزي بالدولار وقد لجأ إليها متأخّراً في 2018، او تشجيع دخول الأموال على المدى القصير عبر وعد المتعاملين بالحصول على فوائد بين 10 إلى 15 في المئة.
ومن غير المستبعد، بحسب المسؤول، أن يكون بعض الأصدقاء وغيرهم من السياسيين قد استفادوا من ذلك، فهذا طبيعي في لبنان وليس مرتبطاً بشخص سلامة بل بالنظام في لبنان. ولكن كان هذا الحل الذي قام به لإيجاد طريقة لسدّ العجز في ميزان المدفوعات. وكان سلامة يردّ على من قال له إنّه هروب إلى الأمام بأن ليس لديه حلّ آخر.
مشكلة رياض سلامة أنّه كان بمثابة رئيس لنقابة (syndic d une copropriété) يعرف تماماً ما يدور في النقابة وكان يغطّيها، علماً، ولإنصافه، أنّه عارض بقوة قانون سلسلة الرواتب لأنّه كان يعرف مدى مخاطره على ميزان المدفوعات، وقرّر إبلاغ ذلك لكل من الرئيس ميشال عون والرئيسين سعد الحريري ونبيه بري، ولم يسمعوا ما قاله لهم وتمّ التصويت على القانون. عندئذ في 2017 كان ينبغي أن يستقيل على أن يشرح سبب استقالته، ولكانت تغيّرت صورته عمّا هي الآن. فمشكلة سلامة أنّه كان مرتبطاً بالمنظومة منذ زمن طويل.
أما بالنسبة إلى ملاحقاته القضائية فقال المسؤول السابق، إنّه لا يعرف شيئاً عمّا يُلاحق بشأنه، وإذا كانت قضايا صحيحة فمن الطبيعي أن يدفع، ولكنه أضاف: “هناك ما يزعجني بأنّ من أعطاه أوامر وهم كثر وفعلوا مثله واستفادوا من النظام ربما أكثر منه، فلماذا لا يُلاحقون من قضاء فرنسا وسويسرا وألمانيا، فكأنّ رياض سلامة يلعب دور كبش فداء”.
ورأى أنّه لو لم يضع ضوابط على رأس المال من دون إعلان ذلك ومن دون قاعدة شرعية لذلك في الأشهر التي تلت الانهيار في تشرين الاول (اكتوبر) 2019، كانت أفلست كل المنظومة المصرفية، علماً أنّ جزءاً كبيراً منها الآن في إفلاس افتراضي. ولكن ما قام به هو لتجنّب انهيار ضخم، وكان أمام معضلة إما أن يترك النظام المالي ينهار كلياً او يطلب من المساهمين القيام بواجباتهم، علماً انّهم لم يكونوا قادرين على ذلك لأنّهم فقدوا الإمكانات، وإما أن يفرض القيود على المودعين، واختار ذلك، معتبراً أنّه يوماً ما سيعود إمكان استخدامهم ودائعهم بحرّية. لقد فضّل حماية المساهمين لأنّهم جزء من النقابة التي كان يغطّيها.
وقال المسؤول السابق، إنّ في لبنان اليوم اقتصاداً نقدياً مستوى مؤشر المركب فيه في أدنى مستوى منذ 1993 والتضخم فيه أعلى منه في سوريا وفي اليمن. هناك اقتران بين الطبقة المالية والسياسية وتوافقها على عدم السير في ما قام به نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي مع صندوق النقد الدولي الذي سيقول للمساهمين إنّ عليهم أن يأتوا بأموالهم، وإذا أرادوا أن يستمر مصرفهم فعليهم التقيّد بقانون البنك المركزي الذي يفرض أن تكون نسبة الملاءة المالية 8 في المئة، واليوم هناك فقط 4 او 5 بنوك مع هذه النسبة. لهذا السبب معظم السياسيين في لبنان والمساهمين في المصارف لا يريدون التعاقد مع صندوق النقد الذي له ثمن باهظ سياسي ومالي واجتماعي بالنسبة إليهم، ويتركون لبنان ينزلق ويهدّدون كيانه.
وانتقد المسؤول الفرنسي السابق إشارة الرئيس ايمانويل ماكرون إلى ما يقوم به البنك المركزي من بيراميد بونزي pyramide de ponzi في أحد تصريحاته حول لبنان، معتبراً انّه كان ينبغي ان ينتقد ذلك مبكراً وليس متأخّراً كما فعل فقط لأنّه كان يريد تعيين أحد أصدقائه حاكماً للبنك المركزي.
وتابع المسؤول السابق، أنّ ماكرون عيّن لودريان مبعوثه إلى لبنان لأنّه أراد تعويضه عدم تسليمه رئاسة معهد العالم العربي في باريس. ووصف لودريان بأنّه شخصية محترمة جداً نجح في وزارة الدفاع، لكنه لم يتمكن من القيام بشيء في وزارة الخارجية طالما السياسة الخارجية في الاليزيه ولا أحد يتجرأ على قول رأيه لماكرون لأنّه لا يحب المعارضة.
رندة تقي الدين- النهار العربي