نهاية «سلطان جائر» تُـوّج على «عرش» الليرة؟!
على مسافة 9 أيام من نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تعدّدت السيناريوهات المنطقية منها والهمايونية الى درجة بلغت الذروة. كذلك تناقضت النظريات التي تتحدث عن جمع الارقام وضربها وقسمتها. وهو ما كرّس الخلافات المتناسلة من استحقاق الى آخر، بما فيها الحديث عن «سلطان جائر» كان متوّجاً على عرش الليرة. وهو ما طرح اكثر من علامة استفهام حول الاسباب التي قادت إلى هذه الهستيريا، وهذه عينة منها.
قبل الدخول في ما يمكن أن تشهده الأيام التسعة الفاصلة عن تسلّم النائب الأول لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري مهمّات حاكمية مصرف لبنان بالوكالة، بعد 30 عاماً جمعت ولايات سلامة الخمس الممدّدة حاكماً، عملاً بما يقول به قانون النقد والتسليف في مثل الحال التي يفتقد فيها الحاكم الأصيل لأي سبب كان، لا بدّ من التذكير بآخر التعيينات التي جاءت بنواب الحاكم الاربعة في جلسة مجلس الوزراء التي عُقدت برئاسة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وحضور رئيس الحكومة حسان دياب في العاشر من حزيران 2020، وهم بالإضافة الى منصوري، كلا من سليم شاهين، بشير يقظان والكسندر موراديان، ولولاية تمتد لخمس سنوات قابلة للتمديد من دون اي شرط. وإلى جانب هؤلاء النواب تمّ تعيين كريستال واكيم مفوّضة للحكومة لدى المصرف، ليكونوا أعضاء دائمين في المجلس المركزي في مؤسسة كُلّفت بإدارة شؤونها وفي المؤسسات المختلفة التي تمتلكها في القطاعات المالية والنقدية والأسواق المالية وهيئة التحقيق الخاصة والطيران.
لم تكن الإشارة الى هذه التركيبة التي يحتضنها مصرف لبنان للإضاءة على المراكز التي يحتويها وأدوارها والمهمّات المختلفة من اجل إدارة القطاع المصرفي بكل وجوهه، بل من اجل تعريف اللبنانيين على مجموعة من الأسماء التي احتلت مراكز دقيقة وحسّاسة وبقيت في العتمة الاعلامية وربما السياسية، ولم يعلق اسم اي منهم في أذهان اللبنانيين عند الحديث عن الملفات التي كان المصرف في صلبها. وقبل الكشف عن استقالة مفوضة الحكومة لدى المصرف كريستال واكيم في الأسبوع الأخير من حزيران 2022 اي بعد عامين وأيام قليلة على تعيينها من دون أي ردّات فعل، لم يسمع بموقعها عامة اللبنانيين لولا ما رافق تعيينها من روايات تناولت الظروف التي جاءت بها. وقيل يومها انّ رئيس «التيار الوطني الحر» قد انتقاها من بين مجموعة من أصحاب الكفاية. وعدا عن هذه المحطة لم يسمع اللبنانيون باسم سلفها وربما خلفها إن عُيّن بديلاً منها ومن تولّى هذه المهمّات من قبل.
وإزاء هذه الملاحظات التي لا بدّ منها لإجراء المقاربة للأيام الأخيرة من نهاية الولايات الخمس المتتالية لسلامة في موقعه، فإنّها كانت ضرورية لتبرير حجم الضجيج الذي شهدته هذه المرحلة قبل نهايتها وعلى كل المستويات السياسية والحكومية والمالية والنقدية والديبلوماسية وربما الروحية، وتمحورها حول شخصية سلامة دون سواه من أبطال تلك المراحل. ومن باب المقاربات التي فرضها الإنهيار المالي والنقدي والمخاوف من المرحلة التي تلي غياب هذا «السلطان الجائر» عن عرشه، فهو وإلى جانب رفضه التمديد ليوم واحد بعد نهاية ولايته الخامسة وتمكّنه من الاحتفاظ بموقعه على الرغم من مشاريع الإقالة او دفعه الى الاستقالة ورفض المسّ به على خلفية «عدم تغيير الأحصنة في اي قافلة أثناء عبورها النهر». فقد بقي محط انظار المتعاطين بالأزمة النقدية والمالية وأسبابها والظروف التي قادت إليها وسبل مواجهتها. وبقيت مدار نقاش وخلافات مستحكمة تنامت بنحو طبيعي تزامناً مع مسلسل الملاحقات القانونية والقضائية التي طاولته ومعه شقيقه وافراد من العائلة ومساعدوه الكبار في لبنان وأكثر من دولة في الخارج من دون ان تغيّر شيئاً في المحطات التي عبرت.
وقياساً على ما تقدّم من المؤشرات التي أعطت الأزمة المالية والنقدية ما تستحقه من مواقف، فقد سقطت كل السيناريوهات التي كان يمكن ان تُطوى او تُبعد ما هو قائم من أزمات متعددة الوجوه. وخصوصاً انّها نشأت في ظل مناقشات حامية تتناول مصير الدولة ومؤسساتها بطريقة دراماتيكية، وكأنّ فقدان الليرة لـ 98 % من قيمتها الفعلية ليس كافياً، ليبشّروا اللبنانيين بمزيد من الانهيارات التي يمكن ان تؤدي الى فقدان العملات الاجنبية وقطع كل أشكال التواصل مع البنوك الوسيطة والعالم. وكل ذلك ناجم عن التشكيك بقانونية وشرعية مسلسل التعاميم المعتمدة في الأسواق المالية والنقدية التي فرضت وجود أكثر من 8 أسعار للدولار الأميركي في لبنان.
وكأنّ كل الضجيج السياسي والحكومي والنيابي الذي يشكّك بأداء سلامة وإجراءاته وتبرئة المنظومة الحكومية والسياسية، لم يكن كافياً لرسم الصورة السوداء المتوقعة حول مستقبل النقد الوطني فور خروجه من مكتبه. فقد جاءت مواقف نواب الحاكم الذين عليهم الإستعداد لإدارة الشؤون النقدية والمالية لتزيد في الطين بلّة. وظهر انّ «مناورة الإستقالة الجماعية» التي لجأوا اليها بداية قبل طلب ما سُمّي بالشروط التعجيزية من المجلس النيابي لتنبئ بكثير من المصاعب المنتظرة إلى درجة تقترب فيها من الكوارث غير المحتسبة التي لم تشهدها اي دولة في العالم. والأخطر انّها أزمات ستنمو وتتوسع بتردداتها الخطيرة على مساحة وطن يعاني مجموعة من الأزمات التي نمت في ظل استمرار خلو سدّة الرئاسة من شاغلها وبوجود حكومة تصريف اعمال شبه مشلولة تقوم بأقل مهمّاتها ومجلس نيابي لا يمكن ان يشرّع سوى ما تفرضه الضرورة.
وبناءً على ما تقدّم يعجز المراقبون السياسيون والاقتصاديون الصادقون والعارفون البعيدون عن صالونات السياسيين ومنظومة الفساد على قلّتهم، عن تقدير ما يمكن ان ينشأ من مظاهر الأزمات بين ساعة واخرى. فالبلد مفتوح على مجموعة من السيناريوهات السود، ولم يتوّرع مدّعو الخبرة المالية والنقدية الذين تعدّدوا وباتوا يُحصون بالمئات، بترقّب ايام لم يعشها اللبنانيون من قبل بلا اي مبرّر علمي او سياسي او قانوني إن التزم الجميع بالاصول التي تتحكّم بآلية انتقال السلطة المالية والنقدية من حاكم المصرف المركزي الى نوابه. فالبلد لا يتحمّل اي مشروع لتحوّلات دراماتيكية يرسمها البعض ويحاول تسويقها ولو لأيام قليلة تستبق الساعة صفر فجر الأول من آب المقبل.
والى حينه وقياساً على حجم الخلافات التي برزت على سطح الاحداث، ومهما اختلف الخبراء والمراقبون، فقد اجمعوا على الدعوة الى التريث لتظهر النتائج التي قصدها المهلّلون لمجموعة الكوارث لفهم مقاصدهم غير المعلن عنها وفرزها بين الصادق منها والمرائي والكاذب. فإن أقدموا على اي خطوة غير محتسبة لقلب الوقائع فإنّ أسواق المال ستتجاوب مع القيادة المالية والنقدية الجديدة إن صدقت النيات. فليس صحيحاً انّ ساكن المصرف المركزي منذ 30 عاماً كان «سلطاناً جائراً» لم ينازعه أحد على عرش الليرة. وإن كان بعض السياسيين سيتبرؤون لاعتقادهم أنّه قد وقع ويمكن سلخه، فإنّ مواقف نوابه الرافضين كل ما اتخذه من إجراءات مالية ونقدية تحكّمت بمصالح الملايين طوال 3 سنوات، كان عليهم ان يبادروا الى الكشف عنها من قبل، منعاً لإدراج أسمائهم على لائحة لا تليق بالمواقع التي كانوا والتي أصبحوا فيها.
جورج شاهين- الجمهورية