الملوخية والمنسف وورق العنب… أكلات بطعم السياسة
من خلال بوابة الحروب الثقافية وعبر حشد الجماهير وراء ثقافة “المنسف” الأردني، خاض الملك المؤابي ميشع الذبياني عام 840 قبل الميلاد حرباً امتدت عبر أجيال عدة توجت بمعركة ملحمية بدأت مع نور الصباح واستمرت حتى آخر النهار، لقي خلالها 7 آلاف شخص من الأطفال والنساء والرجال حتفهم.
كانت أرض المعركة هي مدينة مأدبا الأردنية “نبو”، التي اضطهد اليهود العبرانيون أهلها عبر ثلاثة أجيال من ملوكهم “أخزيا وأخاب وعمري” لمدة زادت على 40 عاماً، وجاءت هذه الحكاية على مسلة ميشع الشهيرة التي كتبها الملك متفاخراً بيده، وقال عنها الكاتب لويس مخلوف في كتابه “الأردن تاريخ وحضارة” إن أول من اكتشفها كان القس الألماني فريدريك كلاين عام 1868 وحاول اقتناءها.
بعد مذبحة “المنسف” بما يزيد على ألف عام منع الخليفة المسلم المعز لدين الله الفاطمي أهل مصر من زراعة وأكل الملوخية، لأسباب سياسية بحتة، فيما يتناول ملوك وزعماء عرب وعالميون في وقتنا هذا أكلات شعبية شهيرة تفتخر بها الشعوب منها “ورق العنب” ضمن مناسبات سعيدة من باب التقارب الثقافي والتعبير عن ضرورة أن يظل الطعام في سياقه الاجتماعي والتراثي الحميم وأن لا يتحول إلى مادة سياسية مهمتها إثارة النزاعات أو البغضاء.
منسف ميشع
من المؤكد أن الملك الذبياني ميشع الذي كان مقر مملكته مدينة الكرك الأردنية هو مخترع ومرسّخ ثقافة “المنسف”، فهذه الأكلة التي تقوم فكرتها الأساسية على طهي لحم الماعز مع حليبها، تعرضت لتطوير دائم من الشعوب حتى وصلت إلى ما وصلت إلى ما هي عليه الآن.
يعد ميشع عرّاب هذه الفكرة مع أنه أمر شعبه القيام بها من باب النكاية الدينية والخديعة السياسية، لأن أعداءه التاريخيين وهم اليهود العبرانيون الذين أقاموا عاصمة حكمهم في مدينة نابلس الفلسطينية واحتلوا مناطق من مملكته كانوا يحرمون على أنفسهم أكل طعام من هذا النوع، ومع ذلك عرف المنسف بشكله البدائي قبل ذلك وبعده في البوادي تحديداً سواء في سوريا أو فلسطين أو نجد.
ويمكن تلخيص فكرة “المنسف” قبل إضافة الرز أو البرغل إليه خلال حقب تاريخية لاحقة أنه طبخ اللحم ولفه بالخبز الرقيق، أو تناول اللحم مع المرق والخبز مع إضافة الجميد (الحليب المجفف) في أغلب الأحيان. مع ذلك يعد منسف ميشع الأشهر في التاريخ أردنياً وعربياً، ويعرف الآن بـ”المنسف الكركي” الذي يمتاز بصفات خاصة، فيما هناك أيضاً أنواع أخرى منها “البلقاوي”.
حرب ثقافية
لم تكن الحروب الدينية وفق صيغتها الحديثة معروفة وقت مملكة مؤاب التي قامت وبادت قبل الميلاد، مع ذلك تمكن الملك المحنك سياسياً وعسكرياً من تجييش الشعب المؤابي وحشد التأييد لفكرته وحربه التاريخية من خلال وضع شعبه تحت الاختبار، وكان هدفه من ذلك كشف الجواسيس والمتعاطفين مع اليهود العبرانيين قبل الشروع في حربه التي خطط لها طويلاً.
يقول بعض المؤرخين والرواة الشفاهيون عبر مواقع الإنترنت إن “من امتنع عن تناول منسف الملك ميشع وقتها كان يعد خائناً، وبهذه الطريقة الذكية تمكن ميشع من تمتين جبهته الحربية الداخلية وهزم خصومه”.
ملوخية المعز
المعز لدين الله الفاطمي وفق الموسوعة العلمية الأوروبية هو رابع الخلفاء الفاطميين في أفريقيا وأولهم في مصر، والإمام الـ 14 من أئمة الإسماعيلية وحكم من (953-975) وهو رجل علم وسياسة، وكان متمكناً من الحكم، شغوفاً بالأدب، ومهاباً من جميع رجال دولته، حيث نقل الخلافة الفاطمية إلى القاهرة، ومع ذلك سميت القاهرة التي تعد مركز صد حضاري عربي ضد البربر والثقافات الغازية الأفريقية في يومنا هذا بقاهرة المعز لدين الله.
ولعبت الأكلة الشعبية الأشهر في مصر وهي “الملوخية” التي توارثها المصريون منذ أجدادهم الفراعنة دوراً حاسماً في هذه التسمية، إذ لم يتمكن الخليفة الفاطمي على رغم كل أمجاده التي حققها في حياته من هزم وتغيير الثقافة الشعبية الفرعونية الغارقة في القدم، فقد أصر الشعب المصري على تداول الأكلة الشعبية حتى بعد أن وصلت عقوبة زرعها وتناولها إلى الإعدام.
ورق العنب
أكل الناس العنب منذ 2440 قبل الميلاد، وينتج اليوم من هذه الفاكهة ملايين الأطنان حول العالم، ويستخدم 80 في المئة من محصولها للنبيذ بأنواعه، فيما يخصص 13 في المئة فقط للأكل، لكن محصول هذه الشجرة “المباركة” تعدى المتوقع، إذ تناول الناس أوراقها أيضاً، حتى أن دراسات عدة شجعت على تناول بذورها على شكل وصفات زيتية وطبية.
وتعد أوراق العنب أكلة شعبية يمكن نسبها للأتراك مع أنها معروفة ومتداولة في أنحاء عدة من العالم قديماً وحديثاً، إلا أن العثمانيين تحديداً خلال فترة حكمهم للعالم العربي ومناطق من أفريقيا رسخوا هذه الثقافة الغذائية، فعرف الناس خصوصاً في سوريا والعراق “اليبرق” و”الدولمة” وكلاهما مفردتان من اللغة التركية، فالأولى تعني الورق والثانية هي الحشو أو ملء الورق باللحم والرز.
بعض مناطق سوريا اليوم تسمي ورق العنب “يلانجي”، وهذه الكلمة تنطبق على كل ما يحشى من طعام، شريطة أن لا يستعمل اللحم فيه، إذ تعني كلمة “يلانجي دولما” المحشي الكاذب، أي الذي يحشى بخلطة تخلو من اللحم.
ليست المنطقة العربية فقط هي التي تستخدم ورق العنب المحشو، ففي فيتنام يحشى بلحم العجل المشوي ويسمى هذا الطبق “باو نونغ لالوت”، فيما أدرج تقليد إعداده أوراق العنب في أذربيجان عام 2017 ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو، بينما أضيفت أطباق “المنسف” و”الملوخية” لتراث الطعام الإنساني الحي خلال عقود زمنية متعاقبة باليونسكو أيضاً.
اندبندنت