فرنسا محبطة في “خطبة وداع” سفيرتها في لبنان: رسائل “صاحبة السعادة” حادّة وجارحة!
يعبّر خطاب السفيرة الفرنسية في لبنان آن غريو في احتفال العيد الوطني في 14 تموز (يوليو) في بيروت عن مرارة تشكو منها السياسة الخارجية الفرنسية، لا سيما تلك المتعلقة لبنان، في عهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ألقت “سعادتها” عظة تأنيبية تأديبية بحقّ لبنان وسياسييه لا يجرؤ ماكرون نفسه على توجيهها إلى موظفي البلد الكبار في فرنسا. وفي ما نضح من خطاب السيدة السفيرة يتسرّب الدرك الذي وصلت إليه مهارات باريس الدبلوماسية.
كانت السفيرة تخاطب مدعويها، وغالبيتهم من السياسيين والموظفين الكبار. ولئن لا يمكن الدفاع عن طبقة أدارت البلد على النحو الذي انتهى إليه هذه الأيام، إلا أن في محاضرة غريو ما يشبه محاضرات ماكرون في حضرة ساسة لبنان، واعتقاده أنه في لغة الزجر والنهر ولهجة التقريع وأبجديات العتب واللوم بإمكانه تمرير سياسات بلاده في لبنان و”تخجيل” قادته وسوقهم نحو مذابح المغفرة والندم.
كُتب نصّ خطاب السفيرة التي تنتهي ولايتها نهاية هذا الشهر بعناية، وتمّ انتقاء كلماته بدقة محسوبة. ولا ريب أن تحرير السطور وتصحيحها ومراجعتها وتعديلها استغرق زمناً بهدف أن تأتي رسائل “صاحبة السعادة” حادّة، جارحة، موجعة. ولبّ القول في خطاب غريو: “أين كنتم اليوم لولا فرنسا؟”.
وليس واضحاً ما إذا كان خطاب السفيرة جاء بالتنسيق مع الـ”كي دورسيه” والإليزيه في باريس، ويعبّر فعلاً عن سياسة فرنسا اللبنانية في هذه الأيام بالذات. فـ”خطبة الوداع” تفضح إحباطاً وفشلاً لفرنسا ولسفيرتها بالذات في لبنان، وأتت محشوّة بالتذكير بأفضال فرنسا على لبنان على نحو لا يليق بأخلاق الكبار، خصوصاً عندما يكونون دولاً ومنها فرنسا التي يطيب لها نعتها بـ”الأم الحنون” وتضيق ذرعاً بهذا الحنان.
خطاب قصر الصنوبر في بيروت سقطة قد ينال من المسار المهني للسفيرة غريو لاحقاً. فليس من مهمات السفراء أن يقصفوا العواصم التي يغادرونها، بل أن يهتدوا باستمرار إلى سبل ترميم ما تصدّع ومعالجة ما تشقّق في علاقات الدول. وفن الدبلوماسية يكمن في التعاطي برأس بارد مع أكثر المعضلات سخونة. وما ورد في خطاب سفيرة باريس في بيروت لا يلتقي مع روحية مهمات المبعوث الرئاسي الفرنسي إلى لبنان جان إيف لو دريان، ولا يتّسق مع الدور الطليعي الذي تقوم به فرنسا هذه الأيام في قيادة مشاورات مع الولايات المتحدة والسعودية ومصر وقطر لإيجاد تعويذة تنهي الانسداد الرئاسي في لبنان.
للسفيرة الحقّ في التذكير بلائحة من الأفضال التي مننت بها لبنان. واللبنانيون أنفسهم لا ينسون دور باريس الدائم لتدوير زوايا أزماتهم. يتذكرون حضور فرنسا داخل اليونيفيل وقبل ذلك داخل القوات المتعددة الجنسيات بعد اجتياح عام 1982 وسقوط 58 مظلياً قتلى عام 1983 في هجوم استهدف ثكنتهم. يتذكرون مؤتمرات باريس المتتالية لمساعدة البلد مالياً، ولا ينسون مسارعة الرئيس الفرنسي إلى ارتجال “إنزال” في بيروت بعد ساعات على انفجار مرفئها في آب (أغسطس) 2020. لكنهم أيضاً لا ينسون أفضال دول كثيرة، عربية خليجية في مقدمتها، لطالما قدّمت للبلد الكثير من دون معايرة وتمنّن.
ما قدمته فرنسا للبنان مشكورة هو قرار فرنسي يخدم سياسة فرنسا الخارجية في العالم والشرق الأوسط ولبنان. صحيح أن في المساعدات ما هو انفعالي عاطفي يعكس مكانة لبنان في الوجدان الفرنسي السياسي العام، غير أن باريس ليست جمعية خيرية، وهي في جهدها الإغاثي وهمّتها لإيجاد معادلة حلّ في لبنان استعانت بخطط طريق تخدم مصالحها في لبنان والعالم العربي والشرق الأوسط.
ستكون فرنسا مسؤولة عن قرارها مساعدة لبنان وما انتهت إليه مساعداتها وما آلت إليه مبادراتها وهمم مبعوثيها في هذا البلد. وإذا ما ضخّت الولايات المتحدة مساعدات إلى الجيش اللبناني وشاطرها الأوروبيون في هذا الاتجاه، وإذا ما تدفقت المساعدات العربية والدولية للتخفيف من أعباء أزمات البلد بجميع سكانه، المواطنين والأجانب، فإن فرنسا هي الوحيدة التي تحظى بهذا الدور والمكانة والطموح للعب وظيفة طموحة لتثبيت قدم فرنسية لا تجد لها ثباتاً في بلدان المنطقة الأخرى.
تفقد فرنسا نفوذها الأفريقي لمصلحة روسيا و”فاغنر” بالذات. يتأرجح كثيراً موقفها في مقاربة حرب أوكرانيا وتعريف العلاقة مع موسكو وتنقيح موقفها من الصين. خرج الرئيس الفرنسي من زيارته الصينية في نيسان (أبريل) الماضي بمحاضرة متعجّلة يعظ بها أوروبا بعدم الانسياق وراء الولايات المتحدة في نظم العلاقة مع بكين. ردت لندن وبرلين في 13 تموز (يوليو) الجاري بالإعلان عن استراتيجيات متشدّدة حيال بكين. سعى الرجل إلى انتهاج رشاقة في العلاقة مع إيران تتجاوز الولايات المتحدة وتبرر التواصل الدؤوب مع “حزب الله” في لبنان، فبدا خاسراً في كل الجبهات. وفيما تجهد فرنسا في تشاورها الخماسي للخروج بتوافق دولي بشأن لبنان، تبدو باريس هي الحلقة الأضعف في هذه الآلية.
في ردّ شخصيات من الثنائي الشيعي على السفيرة غريو ما يكشف عن الجرّة التي انكسرت مع باريس. وفي هذا أعراض جديدة لفشل آخر المقاربات الفرنسية بدعم مرشح هذا الثنائي للرئاسة والتعويل عليه مدخلاً لاستثماراتها اللبنانية. وتتسرّب من خطاب غريو في قصر الصنوبر في بيروت حالة غضب فرنسية من العواصم القريبة والبعيدة ومن سوء تقدير باريس لتعقّد ملف لبنان. استنتجت فرنسا بسهولة أن تمرّد ساسة لبنان على “سحر” الأم الحنون ليس بالنهاية وليد نزق محلي فقط، بل ينهل قوته من مزاج تلك العواصم التي تملك في لبنان، منذ عقود، ما فقدته فرنسا في البلد منذ زمن طويل.
محمد قواص- النهار العربي