هَمُّ المحطات ملء الفراغ بأقلّ تكلفة»: «جارتي فقط لم تُطلق (بودكاستها) الخاص!»
رخاوة الحوار الفني اللبناني والاحترام المنهوب
نيشان وجمانا بو عيد في نقاش إشكالية قَلْب المعايير
قلّة تدرك أنّ السؤال فن والمحتوى أناقة ومكانة. السائد، رخاوة. يصعب تحمُّل مجرى حديث فني على محطة لبنانية. لا بدّ أن تشعر برغبة في إطفاء الجهاز. ينفعل المُحاوِر ويجرّ المُحاوَر إلى الانفعال. تختلط الأصوات وتتداخل النبرة الحادّة. هذا عدا عن واقع السؤال المُستَهلك، علامة ضحالة الإبداع. كان الحوار الفني في لبنان مضربَ مثل، روّاده مكرّسين، سمعتهم عطِرة. الاستباحة والرخص، يعمِّمان اللاجدوى على وَقْع التصفيق.
يصوّب الإعلامي اللبناني نيشان ديرهاروتيونيان معنى كلمة شغف: «هي ليست الولع أو الهيام والحب العارم. بل المعاناة». هذا ما قاساه لإثباته النفس وجعل الآخرين يتعرّفون إليه لمجرّد ذكر اسمه. يبدأ حديثه مع «الشرق الأوسط» بهذه المقدّمة، ليقول إنّ الوصول اشترط الجهد: «لم يُتَح الإنترنت، وتطلّبت ثقافة الإعلامي بحثاً في الكتب والمراجع لصقل المعرفة. استقاء المعلومة ارتبط بضرورة التهذيب اللغوي وحُسن القراءة والنطق والفهم. لم يكن الإعلامي عادياً. بل علامة فارقة».
تدخُل الإعلامية اللبنانية جمانا بو عيد في صلب الموضوع: «المنتشر على التلفزيون اللبناني يمكن تسميته جلسة أو لقاء أو (صبحيّة)… لا حوار». تُحمّل المحطات مسؤوليتها، فيما يحلّل نيشان تداعيات الأزمة الاقتصادية على القطاع الإنتاجي، مما يعزّز المجيء بمَن يرضى بالسعر الأدنى.
تذكر جمانا بو عيد أيام العزّ حين كانت تُطرَح فكرة البرنامج الفني، فالمحتوى، بعدهما يُبحث في الديكور والشكل. «اليوم، الغلبة لمفرقعات مُتفق عليها غالباً بين المُحاوِر والضيف للتحوّل لسيرة على مواقع التواصل».
حاور نيشان أسماء تلمع، وصنعت جمانا بو عيد لنفسها اسماً يُحتَرم. تحتلّ الشاشة اللبنانية وجوه معظمها ضئيل الثقافة، يطفو على السطح. حوارات عابرة، وسعي خلف الفضيحة. تستوقف مقدّم «مايسترو» أهمية الثقة بين المُحاوِر والمُحاوَر، وهي برأيه، تمهّد لترك بصمة: «أردتُ بعد إسكات الكاميرات أن تلتقي عينايَ بعينَي الضيف لنشعر بالاحترام المتبادل. لم ألعب يوماً دور القاضي. طرحتُ أسئلة فجّة، لكن بلباقة. الفجاجة فن، ما دام الاحترام هو القاعدة».
يؤلم جمانا بو عيد، التي أطلّت مؤخراً بحوارات فنية لائقة ضمن برنامجها «يلا نحكي» (LBC)، أنّ هذا الزمن يتّهم الصادق بالسذاجة والمدّعي بالذكاء. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا يُلام المُحاوِر وحده، فالقيم تخفت. التواطؤ يجعل التفاهة مسألة عادية، فيجد الاستسهال مَن يشجّعه ويفرض واقعه. يكفي أن يؤمّن مذيعٌ راعياً تجارياً حتى ينال الموافقة على برنامج. هَمُّ المحطات ملء الفراغ بأقلّ تكلفة».
يُدرّس نيشان مادة لغة الجسد لطلابه الجامعيين، ولديه من الاطلّاع الكثير لربط السلوك بدلالاته: «اللسان يُخبر الحكاية والجسد يُكملها. لا أحاور بالإصغاء إلى الكلمات فحسب. أرصد الجسد. كل حركة يد أو قدم تفشي سراً». يتابع أنّ معظم أسئلته التي كسب منها ما يُعرَف بالسَبْق، «أسقطتُها في الوقت المناسب بينما أقرأ لغة الجسد». يتطلّع إلى ما كان بالأمس وما يطرأ، فيتأسّف: «شحَّ الاحترام، كأنّ رصيده سُرق مع ودائع اللبنانيين المنهوبة في المصارف. أفتقد فن طرح السؤال وفن المقدّمة والمداخلة. كلها تصبح من الماضي».
يلتقيان عند السؤال عن ماهية المؤثِّر والفضاء المزدحم بالـ«بودكاست». تستغرب جمانا بو عيد أنّ بديل الإعلام الكلاسيكي هو حوارات من كل صوب، وتتهكّم: «جارتي فقط لم تُطلق (بودكاستها) الخاص!». لطالما انتظرت نهاية حلقاتها للوقوف على أصداء الناس. كم ترقّبت وخفق القلب للإطراء! اليوم، تختلط الأصناف، ويتوه الجيد في المهبّ.
يعود نيشان إلى احترام النفس والمهنة: «لا بدّ من ذلك عند الحديث عن معايير النجاح». يعلم أنّ مواقع التواصل أتاحت الكلام للجميع، فخفتت هالات وتلاشت كاريزما. يتساءل: «هل كل مَن يستعمل لسانه وحنجرته وأوتاره الصوتية، مؤثّر؟ كيف يؤثّر وماذا يقول؟». يستعيد أسماء شكّلت شعلة الإعلام اللبناني في عصره الذهبي؛ وشيء ما في داخله يستكين لإحساسه بأنه أيضاً يترك بصمة. يجرؤ على الاعتراف باعتكافه عن مشاهدة حوارات لا تضيف، لرفضه إضاعة الوقت بما لا يراكم معرفة. مثل جمانا بو عيد، يتحسّر على مذيعي اليوم، من دون تعميم، لأسفه بأنّ قلة فقط تشاء أن تتعلّم.
ترفض عروضاً يستدعي أداؤها دوراً لا يليق، كأنْ تستسهل أو تروّج للخواء. تُجاري جمانا بو عيد العصر، شرط ألا تطيح المجاراة بجهود العمر: «الخبرة والتكيّف يصنعان حالة خاصة. بإمكان الإعلامي المُكرَّس محاكاة جيله والجيل الجديد. ليس المطلوب امتداد الحلقة لساعتين، لكنّ السرعة قلّما تُفضي إلى ما يبقى».
يهولها ردّ مُحاوِر على رجاء ضيف بعدم التطرّق إلى موضوع يُحرجه، بالقول إنّ الحديث «يجب أن يشمل كل شيء!». ويردّ نيشان أحد عوامل نجاحه إلى «تنحّي الإعلامي تحت شخصية ضيفه». بينما وجوه تطارد «النجومية»، لقّنته المهنة بأنْه «لا يوجد نجمان على الهواء. الضيف هو مَلِك لحظته، وإنْ ينتظر المُشاهد من المذيع، بعد الخبرة والانتشار، أن يكون حجر أساس». يصف الوضع بـ«المزري»، ويختزل مفهوم الجماهيرية: «بعض أصناف مبيدات الحشرات ذائع الشهرة، لكنّ أحداً لا يرشّه على جسده. السعي الحقيقي في مرتبة أخرى».
فاطمة عبدالله- الشرق الاوسط