فدرلة السياحة اللبنانية من بوابة الجنوب… ومعاقبة حزب الله!”!
“Is Lebanon safe” (هل لبنان آمن؟)، هو عنوان فيديو اختاره أحد “الإنفلونسرز” المتخصصين في المحتوى السياحيّ في لبنان، لطمأنة السياح الأجانب حيال تحذيرات سفاراتهم من مناطق تصنفها “خطيرة” فيه. وفيما يبدو ذلك عادياً عند مخاطبة هذه الفئة من الجمهور، فإن لبنانيين كثر يتساءلون بدورهم انطلاقاً من مخاوف محلية أكثر تعقيداً: “هل الجنوب آمن؟” كلما تخطوا مدينة صور نحو العمق الجنوبي.
ورفعت وزارة السياحة اللبنانية شعار “أهلا بهالطلة أهلا”، لكن عنواناً آخر يزدهر في ظل الفدرالية المقنّعة التي تعيشها البلاد في 2023. “يللي متلنا.. تعا لعنا”. وفي الجنوب حيث يتحسس لبنانيون من السياحة في مناطق “ذات نفوذ لحزب الله”، ازدهرت الاستثمارات السياحية هذا العام، ما أثار أسئلة حول وصول المنطقة لمرحلة “الاكتفاء الذاتي” سياحياً من أبنائها المغتربين، وحول الخاسر الأكبر من هذه المعادلة.
مغتربو إفريقيا: عصب السياحة الجنوبية
ليلة في جنوب لبنان “أغلى من ليلة في موناكو”. هو غيض من فيض انتقادات توجّه عبر السوشال ميديا لأسعار إيجارات الشاليهات والفيلات جنوباً، لكنّ الانتقاد الأعظم هو لظاهرة الشاليهات التي تسوق لخدماتها تحت عنوان “الخصوصية” الأمنية والاجتماعية وربطها بفكرة سيطرة “حزب الله”، على البيئة الجنوبية.
وتبلغ كلفة قضاء “جروب” مؤلف من ثمانية أشخاص، ليلة واحدة في أحد منتجعات الجنوب، 900 دولار أميركي، بينما قد لا يتجاوز المبلغ المئتي دولار للمجموعة نفسها في مناطق سياحية “باب أول” لبنانياً في جبل لبنان وكسروان وغيرها. ويرجع ذلك الفارق الكبير ربما إلى معادلة العرض والطلب في السوق، بينما يعزو مراقبونن غلاء الأسعار، لنوعية سياح الجنوب، وهم في غالبيتهم من سكان المنطقة المغتربين في دول أفريقيا، وهم من المغتربين اللبنانيين “الأعلى قدرة شرائية”.
وهؤلاء الأفراد يمكن وصفهم بـ”عصب السياحة الجنوبية”، فرغم عدم حماسة لبنانيين من مناطق عديدة لزيارة الجنوب سواء لقربه من الحدود مع اسرائيل أو لنفوذ حزب الله فيه، تؤمّن هذه الطبقة اكتفاء ذاتياً للمنطقة سياحياً، عبر السياحة الداخلية فيها.
الفدرلة السياحية
أدت حوادث لبنانية متفرقة بعد تعاظم انحلال الدولة في السنوات الأخيرة، إلى تكريس خطاب التقوقع والفدرلة، ما يجعل أبناء منطقة معينة كالجنوب مكتفن بالسياحة فيه دون المناطق الأخرى. ودفعت المرأة اللبنانية الثمن الأكبر من ذلك الخطاب عندما أصبحت ملابسها، معياراً للتقسيم، والترحيب أو عدم الترحيب بـ”السياح اللبنانيين” في المناطق اللبنانية!
وكان تكرار حوادث منع المحجبات من دخول مسابح خاصة شمالاً، أو منع امرأة من السباحة بملابس البحر على شاطئ صيدا جنوباً، على سبيل المثال، جزءاً من مجموعة عوامل جعلت عائلات جنوبية تفضل التمتع بخدمات سياحية في الجنوب، تحت عنوان “الحفاظ على الخصوصية”، وهو ما كرسه أصحاب شاليهات الجنوب، بالترويج لمنتجعاتهم، عبر السوشال ميديا تحت عنوان “الخصوصية”.
في المقابل، انكفأ لبنانيون آخرون عن السياحة في الجنوب، نفوراً من العنوان نفسه، خصوصاً من يرفضون وضع شروط مسبقة على قضاء أوقاتهم السياحية. ولا تُختزل تلك الشروط في منع المشروبات الكحولية، بل تصل إلى ضبط صوت الموسيقى في الشاليهات التي يستأجرونها. أما الخاسر الأكبر من ذلك فهي المناطق اللبنانية التي ما عادت تجذب السياح “المقتدرين” من أبناء الجنوب، ممن باتوا يفضلون السياحة في بيئة لا “تتحسس” من أسلوب عيشهم بل تُزايد عليه.
السياحة من أجل الصمود
وهذا العام، ازدهرت السياحة الداخلية في الجنوب بفضل عامل حاسم، مع دخول مستثمرين جدد اسثتمروا في أراضيهم وحولوها الى منتجعات، ضمن توجه أوسع لدى اللبنانيين للاستثمار في أي مبلغ بعد أزمة المصارف. وهذه المشاريع باتت شكلاً من أشكال الصمود لأصحابها، ومن بينهم، أمير ضاهر، وعائلته التي فقدت رواتبها قيمتها إثر الانهيار.
“بيت الأمير” الواقع بين جبلين في سهل الميدنة قرب عربصاليم، كان مجرد غرفة زراعية للعائلة، واليوم بات “سنداً” اقتصادياً. ويقول ضاهر لـ”المدن”: “بدأت حرفياً من الصفر، بمشروع استثماري بنيته حجراً فوق حجر”. والشاليه الذي بُني بذوق رفيع من حجارة صخرية مميزة، يؤجره ضاهر بسعر يبدأ بـ80 دولار لليلة، مؤمناً في داخله أصغر تفصيل قد يخطر في بال المستأجر، ليشعر أنه فعلاً في رحب كرم الضيافة الجنوبية.
أما “الخصوصية” في “بيت الأمير”، فمن نوع آخر، حسب تعبير ضاهر: “أؤمن مكبرات الصوت للسياح ليتمكنوا من سماع الموسيقى، ويقضوا وقتهم كيفما شاءوا، ليشعروا أنهم في منزلهم بالفعل وبالطبع لا أمنعهم من شرب الكحول”.
الجنوب بعد الحرب: مبادرات فردية ودولة غائبة
بعد انسحاب العدو الاسرائيلي من الجنوب العام 2000، عاد المغترب عبد الرحيم سبيتي إلى لبنان، وافتتح “منتجع جرادي السياحي” في كفرصير النبطية على ضفاف الليطاني، ويحافظ اليوم على سعر غرفة في فندقه لعائلة، لا يتجاوز الـ100 دولار لليلة، منافساً بأسعاره نحو 50 شاليه حديثاً في المنطقة، غالبيتها بإيجارات تتخطى الـ200 دولار لليلة الواحدة.
وفي المنتجع لا تباع الكحول لأنه “ذو طابع عائلي”، ورغم هذا، جذب المطعم سياحاً أجانب ممن يعصون إرشادات سفاراتهم حيال “المناطق الأمنية غير المرغوب بزيارتها” في لبنان، في دلالة على أن في الجنوب طبيعة سياحية تستحق اهتمام الدولة. وشكا سبيتي من جهته، تقصير الدولة حيث يؤمن الجنوبيون استدامة عملهم بمبادرات فردية تشمل الطاقة الشمسية وتزفيت الطرق وتطوير السياحة.
العامل الأمني
في السياق، استبعد الخبير السياحي، باسكال عبدلله، وصول لبنان إلى مرحلة الفصل بين مناطقه على الخريطة السياحية، خصوصاً أن جنوب لبنان يحوي لبنانيين من جميع الطوائف، ويمارسون السياحة في كل لبنان من دون أدنى قيد. وفي الجنوب سياحة وطنية للأماكن المتعلقة بفترة الاحتلال الاسرائيلي مثل “بوابة فاطمة”، والسياحة الأثرية كقلعتي تبنين والشقيف، أو المقامات الدينية مثل مقام النبي شمعون.
رغم هذه المقومات، أقرّ عبد لله بعدم الحماسة للتسويق للجنوب بسبب للعامل الأمني. فبعض اللبنانيين من حاملي جوازات السفر الاجنبية مثلاً، يحتاجون إذنَ مرور (laissez- passer) من مخابرات الجيش لدخول الجنوب العميق، مثل بقية الأجانب، وهذا ليس عاملاً مشجعاً.
من جهته، سخر المهندس عماد عامر من فكرة “السياحة المنتعشة” في لبنان عموماً، فالسياح مغتربون لبنانيون بمعظمهم، وتغيب السياحة الأوروبية والخليجية، ويدفع الجنوب الثمن الأكبر من حصة العامل الأمني، مع وضع الجنوب في المنطقة الحمراء من قبل السفارات الأجنبية عموماً.
أما عن تقصير اتحادات البلديات والوزارات المعنية، فأشار عامر إلى غياب الرؤية والتخطيط لأي سياحة مرجوة للبنان. ففي الجنوب إهمال لمحميات طبيعية مثل جبل الشيخ وحوض الليطاني، وتفريط في الموارد الطبيعية كنهر الليطاني الملوث، وظاهرة التعدي على المشاعات.
وفي المحصلة، يُظلم أهل الجنوب مرتين، مرة بتقصير الدولة بحقهم، ومرة ثانية عندما يعاقب لبنانيون جزءاً من الإراضي اللبنانية حينما يريدون معاقبة حزب الله بمقاطعة السياحة جنوباً.
المدن