رحيل سلامة: مناسبة للعودة إلى قانون النقد والتسليف
في بداية شهر آب المقبل، تنقضي ستّون سنة بالتمام والكمال على إقرار “قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي” عام 1963، بموجب مرسوم اشتراعي حمل توقيع الرئيس فؤاد شهاب. وتشاء الصدف أن تنقضي في اليوم نفسه، في بداية آب، ولاية حاكم المصرف المركزي الأكثر خروجًا عن نص ذلك القانون، إلى الحد الذي يدفع البعض إلى اعتبار ولاية سلامة ارتدادًا عن جميع التنظيمات والقواعد المصرفيّة التي أرستها الحقبة الشهابيّة في ذلك القانون. وكما بات معلومًا اليوم، لم تكن نتيجة هذه الردّة سوى تداعي وخسارة المنظومة المصرفيّة والماليّة، التي ورثها لبنان عن مرحلة ما بعد الاستقلال، والتي نجحت في مراحل سابقة في تخطّي صدمات كبيرة وخطيرة، كالحرب الأهليّة مثلًا.
من دون شك، فاتنا القطار، ولم يعد بالإمكان رفع الأضرار التي خلفتها “ردّة” سلامة بمجرّد العودة إلى نص القانون. فالتعامل مع هذه الأضرار سيحتاج إلى خطّة أشمل وأكبر لتوزيع خسائر المرحلة السابقة، وإعادة الانتظام إلى السياسة النقديّة والنظام المصرفي. ومع ذلك، يمكن القول إن مغادرة سلامة لمنصبه في أواخر الشهر الحالي، يمكن أن تكون مناسبة للعودة والاحتكام إلى نص القانون، وطوي صفحة “شريعة الغاب” النقديّة والمصرفيّة التي كرّسها الرجل في ولاياته المتعاقبة، والتي امتدت لنحو 30 سنة من الزمن.
استقلاليّة المصرف المركزي
في الأسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف، يشير المشرّع إلى أنّ منح المصرف المركزي امتياز إصدار النقد والرأسمال من قبل الدولة لا يجعلا منه “مصلحة تابعة للحكومة”، بل يفترض أنّ يكون الهم الأوّل الحفاظ على “استقلال هذه المؤسسة وفعاليّتها”، عملًا بالمعايير الدوليّة التي كرّست منذ ذلك الوقت استقلاليّة المصارف المركزي، وإن بدرجات مختلفة تتفاوت بين الدول.
ببساطة، المطلوب تحييد السياسة النقديّة عن الأهواء والمصالح السياسيّة، وإبعاد الرقابة على النظام المصرفي عن أثر اللوبيات الماليّة، التي تملك نفوذها داخل النظام السياسي. وهذا ما دفع قانون النقد والتسليف إلى التشديد على استقلاليّة المصرف الماليّة والمعنويّة في أولى المواد التي أنشأته، لتثبيت هذه النقطة.
مع سلامة، كانت المسائل مختلفة إلى بعيد. فسلامة أفرط في استقلاليّة إدارته للمصرف المركزي، حين أراد منع الرقابة على النتائج الماليّة والإدارة التنظيميّة للمصرف، فيما أطاح بهذه الاستقلاليّة في الجانب المرتبط بالقرارات المتعلّقة بالسياسة النقديّة والتنظيم المصرفي، وهو ما عاكس جوهر قانون النقد والتسليف.
وعلى هذا النحو، يمكن للمتابع العودة إلى تصريحات سلامة التي تشير إلى أنّ تثبيت سعر الصرف –قبل الانهيار- جاء مدفوعًا بإصرار الحكومات المتعاقبة على هذه السياسة. كما يمكن العودة إلى الصفقات المتكرّرة، بعد الانهيار، التي أفضت في مراحل عديدة إلى ضخ الدولارات في السوق لتمرير بعض الاستحقاقات السياسيّة الحسّاسة، كالانتخابات النيابيّة مثلًا. وقبلها، في بعض المراحل السابقة، تحوّلت العمليّات الاستثنائيّة والهندسات الماليّة إلى باب من أبواب توزيع المغانم الماليّة على القوى السياسيّة، التي تملك حصصًا في المصارف اللبنانيّة، على أعتاب التجديد للحاكم في مجلس الوزارء.
اليوم، يمكن لخروج الحاكم من المصرف المركزي أن يمهّد لإعادة الاستقلاليّة المفقودة في ما يخص إدارة السياسة النقديّة، وتنظيم القطاع المصرفي. وهذه الاستقلاليّة، تكتسب اليوم أهميّة مضاعفة في ظل الاستحقاقات الداهمة، المرتبطة بالمعالجات المصرفيّة والنقديّة المطلوبة في ظل الانهيار، والتي يفترض تقودها المقاربات العلميّة والتقنيّة، لا المصالح السياسيّة والماليّة.
الرقابة الماليّة على المصرف
كما أشرنا سابقًا، وفي مقابل المساومة على استقلاليّة السياسة النقديّة والتنظيم المصرفي، أفرط سلامة في التفلّت من الرقابة التي يفرضها القانون على ماليّة مصرف لبنان وإدارته التنظيميّة.
بهذا الشكل، امتنع سلامة على مدى سنوات طويلة عن نشر الميزانيّات المدقّقة، التي تعكس وضعيّة المصرف الماليّة ومستوى ملاءته، كما يفرض قانون النقد والتسليف، وهو ما سمح فعليًا بمراكمة الخسائر على مدى عقود من الزمن، من دون قرع ناقوس الخطر. وبهذا الشكل أيضًا، اكتفى سلامة بنشر بعض المعطيات الماليّة المقتضبة، مع التحايل لإخفاء أي مؤشّر يمكن أن يكشف القنبلة الماليّة الموقوتة التي يخفيها الحاكم.
هذه الممارسات، التي مهّدت للانهيار، ما زالت مستمرّة حتّى اليوم. فحتّى هذه اللحظة، يخفي حاكم مصرف لبنان تقرير التدقيق المحاسبي، الذي جرى إعداده بحسب الاتفاق مع صندوق النقد. مع العلم أن نشر هذا النوع من التقارير يفترض أن يكون مسألة بديهيّة وفق مواد قانون النقد والتسليف، التي تطلب تقديم الميزانيّة وحساب الأرباح والخسائر المفصّل لكل سنة، قبل 30 حزيران من السنة اللاحقة. وهذا ما يسمح للحاكم بالاستمرار بالتلاعب بميزانيّات مصرف لبنان، كما يمنع ذلك حاليًا الرأي العام من الوقوف عند حقيقة الوضع المالي الراهن للمصرف.
وأكثر من أي وقت مضى، يحتاج مصرف لبنان اليوم إلى العودة للشفافيّة في الإفصاح عن أرقامه الماليّة، حسب الضوابط التي فرضها قانون النقد والتسليف، للعمل على المعالجات النقديّة والماليّة في ضوء المعطيات الدقيقة، بدل أن يكتنف الغموض كل ما له علاقة بأرقام ووضعيّة مصرف لبنان.
مخالفات أخرى بالجملة
تطول لائحة المخالفات التي ضربت بعرض الحائط روحيّة قانون النقد والتسليف. فالحاكم خالف مواد القانون التي تمنع إقراض المصرف المركزي للدولة، إلا في حالات استثنائيّة شديدة الخطورة، وبعد فرض ضوابط مشدّدة وبموجب آليّة شديدة التعقيد. ثم خالف هذه المواد مرّة جديدة، حين قرّر بين شباط وحزيران 2023 إضافة ديون ضخمة على عاتق الدولة، لحساب المصرف المركزي، من دون أي موجب أو سند قانوني. كما تجاوز نصّ القانون حين حوّل المصارف إلى أداة لتجميع الدولارات وتوظيفها لديه، بدل أن يكون موضوع عمل المصارف –كما ينص القانون- استخدام أموال الودائع في عمليّات الإقراض الطبيعيّة.
وفوق كل ذلك، خالف الحاكم نص القانون بما يخص سعر الصرف. إذ فرض القانون آليّات واضحة لتحديد سعر الصرف القانوني، فيما قام الحاكم منذ التسعينات باعتماد آليّة تثبيت سعر الصرف، من دون أي سند تشريعي يتيح ذلك. وبعد الانهيار، باتت مسألة أسعار الصرف المتعددة خاضعة لتعاميم الحاكم وقرارات وزارة الماليّة، والتي كانت بدورها تتم على وقع تفاهمات الحاكم مع رئيسي الحكومة ومجلس النوّاب. وحتّى هذه اللحظة، لا يوجد نص قانوني واضح يشرّع آليّة عمل المنصّة، التي يفترض أن تكون حاليًا الأداة المعتمدة لتوحيد وتعويم سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
في خلاصة الأمر، لم يشبه أداء حاكم مصرف لبنان روحيّة قانون النقد والتسليف، كما لم يلتزم الحاكم بمعظم المواد التي كان يجب أن تقيّد سياسته النقديّة. وهذا ما يفسّر التنافض الصارخ ما بين إدارة وتوجّهات رياض سلامة النقديّة والمصرفيّة، وتلك التي تبنّاها نوّاب الحاكم السابقين منذ إنشاء مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ القوانين التي جرى إقرارها بعد إصدار قانون النقد والتسليف، سمحت أساسًا بتركيز قدر كبير من الصلاحيّات بيد حاكم مصرف لبنان، وهو ما سمح لسلامة بالتمادي في تجاوز القانون، بأقل قدر ممكن من المحاسبة والمساءلة.
المدن