جوليا قصار: من الخطورة أن يشعر الممثل بالارتياح

أمكن أن تكون الطرق أكثر سهولة بالنسبة إلى جوليا قصار، لكن قرارها اختيار شقاء الدروب. يُحدث فيها سؤالٌ عن سبب وَقْع الاسم؛ هي الممثلة في المسرح والتلفزيون والسينما، تجيد الإقناع بالضحكات ودراما الحياة؛ خليطاً من المشاعر. لوهلة، تُذعن للحسرة لكون نوعها المُتردّد جرّها إلى رفض فرصٍ أمكن أن تُضاعف الجماهيرية، لكنها في آن تسعد لكسب المكانة بالقناعة والانتقاء.

المسألة «خيار شخصي»، تقول لـ«الشرق الأوسط». عملها مع قامات منهم المسرحيّ اللبناني الكبير ريمون جبارة، كثّف إحساسها بالقلق. «أردتُ دائماً أن أؤكد التجدُّد وبأنني جديرة بالثقة». تردّ على نقاش الاستسهال والصعوبة: «لا يبلغ الممثل عمراً تصبح معه الأمور أقل وطأة. يظلّ يراكم الخبرات وهو في الثمانين مثلاً. بالنسبة إليّ، الأهم كان إثبات الإمكانات الفنية الجديدة. حياة الممثل لم تكن يوماً سهلة».

يعتريها قلق حيال إتقان الإنجاز، ولا تزال تخشى خيبة النتيجة: «في بداياتنا، لا نفكر ببناء الاسم. يهمنا فقط أننا وجدنا مهنة نحبّها، وعلينا العمل بشكل جيد. هاجس الأداء الاحترافي لا يتلاشى مع الزمن. حتى اليوم، يشغلني إرضاء نفسي ومَن أعطوني الثقة. أحترم تجاربَ أخوضها، وعليَّ الإثبات بأنني أستحقها».

تتعامل جوليا قصار مع الأدوار بقلق وحب. هاتان النزعتان تقيمان فيها. لكن، ماذا لو تحوّل القلق إلى صراع يستمدّ وقوده من رغبة داخلية في الحصول على كل شيء؛ الأدوار المسرحية والدرامية والسينمائية، مع التعليم الجامعي الذي تمارسه منذ سنوات؟ كيف تلجم صخب الرأس؟ تجيب: «تكمن الخطورة في ارتياح الممثل إلى اكتسابه كل المعارف وبلوغه التمكّن التام. هنا يقع في التكرار. مُرهق أن يحصل على حيّز متساوٍ في المسرح والتلفزيون والسينما. ذلك يحول دون الراحة والنوم. أدرك الواقع فأعمل بالأولويات».

تقرأ نصوصاً شعرية ممسرحة، آخرها في الذكرى التاسعة لرحيل أنسي الحاج. وهي لا تُتمتم المكتوب على الورق، بل تزور روح الشاعر وتحاكي غموضه وصعوبته: «أجرّبُ سماعه وهو يتواصل معي بصوَره ومفاتيحه السحرية. ينشغل عقلي وخيالي في عالمه الرائع. القراءات الشعرية تعني أن تمرّ، عبر المسرحيّ، صورٌ نحتها الشاعر طوال ليالٍ. التمكّن يساعد في اختصار الوقت، لكن الجهد شرط للوصول. هذا في الشعر، فكيف بتجسيد الشخصية؟».

حمّلها أساتذتها «عبء» السير على درب الروّاد. ذلك مُتعب. فأنْ يشعر المرء بهَمّ كل شيء، مُعذِّب أيضاً. تُعلّم تلامذتها ما تعلّمته، بإدخال أساليب جديدة، وترى أنّ في المجالات كافة، ثمة الجدّي والمستهتر، لكن على مقاعد «الجامعة اللبنانية» التي تصرّ على مواصلة التعليم فيها، رغم الأزمات، مواهب واعدة. «مثل زهور على المسارح»، تصف مَن يُشعرونها بإيصال الرسالة بأمانة.

يجعلها الالتزام التعليمي على مسافة من أدوار تتطلّب سفراً لأشهر أو وقتاً لا تملكه. تشرح: «النصّ المُغري عامل مهم، كذلك الظرف الإنتاجي. أتطلّع إلى هذه الناحية، وأضيف سطوة الساعة. أوافق على أدوار لا تتعارض مدة تصويرها مع دوري أستاذةً جامعيةً. في السينما، الوضع أفضل. التلفزيون أحياناً يُصعّب الأمر على الممثل غير المتفرّغ».

تشيد جوليا قصار بمحاولات لدفع النصوص إلى مستوى لائق. برأيها، «القصة التي تشبهنا والقريبة من واقعنا، هي التي تستميل المُشاهد». تتحدّث عن «طابع خاص» يمنح عملاً هويته، كأنْ نقول السينما اللبنانية أو الدراما السورية: «الخصوصية عامل قوة، وهي لا تعني شعباً دون آخر، بل تجذب جمهوراً يشاء التعرّف إلى هموم وهواجس لا بدّ أن يلمح نفسه فيها. الوعي لهذه الخصوصية يجعل النصوص أكثر تأثيراً».

وفي المسرح، تُغازل مواهب وتَرفع القبعة لجرأتها: «نحن أمام مختبر شبابي هائل، في الكتابة والإخراج والتمثيل. تكاثُر التجارب يُفضي إلى خلاصات مهمّة. المسرح صعب والكتابة للخشبة تتطلّب جرأة. سعيدة بجيل يحاول ألا ييأس. أما أنا فأستمرّ بحضور الروّاد في داخلي. رحل ريمون جبارة بالجسد لكن فكره يمنحني البقاء».

العطاء الاستثنائي، إذن، يُبدّد احتمال أفول المراحل الكبرى. قد لا تعود الأشياء كما كانت، لكنها تملك من التجدّد ما يكفي لتواصل العجلة دورانها. كان عام 2017 حين قدّمت جوليا قصار آخر أعمالها المسرحية. اليوم، تتطلّع إلى علاقتها بالخشبة من غير زاوية: «بات من الصعب الالتزام بتمارين طوال شهرين من أجل العرض لأيام. على نصّ ما أن يستفزّني للعودة. عندها سأجد الظرف المناسب والوقت، وحماسة الإقدام».

تردّ على سؤال: هل «يجب» على العمل الفني حَمْل الرسائل؟، بالإشارة إلى أنّ كلمتَي «واجب» و«فن» لا تلتقيان: «الفن لا يمسك عصا. كل فن محترم لا بدّ أن يترك شيئاً. عبرة أو دمعة أو ضحكة…».

فاطمة عبدالله- الشرق الاوسط

مقالات ذات صلة