فضلات المغتربين تُطعم الفقراء … وبطون المعوزين خاوية!

بين سندان الفقر ومطرقة الجوع ترزح مئات عشرات العائلات، في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تضاعفت وطأتها مع دولرة كافة المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية. فارتفعت الأسعار بشكل جنوني وغير مسبوق. وما زاد الطين بلّة هو انعدام قيمة الرواتب كونها بالعملة الوطنية، حتى اضحى كل مواطن كأنه يقاوم في “معركة البطون الخاوية”، ويصارع بصمت مرارة الاملاق والجوع. أما أصحاب السلطة والسيادة فقد تنصّلوا من مسؤولياتهم، وفي الحقيقة هم ليسوا الا عبيداً للكراسي وتجاراً للحروب والمناكفات السياسية والصفاقات المشبوهة.

في لبنان أصبح الفقير في هذا الواقع المزري يعيش حيران، مثقل بالقلق يتكئ على ماضٍ بائس، وحاضر ينزف، ومستقبل بلا وجه أو ملامح. واللبنانيون اختبروا وعايشوا ويلات الحروب، وتأقلموا مع جشع الحكام. ثم اتت الازمة فأصبحت الامور الحياتية صعبة، وصار الفرد يستثقل الأيام ويستعجل الآخرة، حتى وكأن الموت بات أنشودة المتعبين والقبر نافذة للسلام، وسلام على الراحلين إلى الله، أولئك الذين أطفأوا جذوة الحزن على موائد فارغة، فانقلب حالهم في هذا الجو المحال الى عوز وعسر. ركض خلف لقمة عيش ضائعة، ونزف لماء الوجه أمام أحقر البشر في عصر تحكمه فوضى الشياطين.

الحرمان قاهر، لكن الأكثر وجعاً ان يسمع الاهل أنين أولادهم يشتكون من الجوع. وكلمة “السَغَب” لغويا تعني الشخص الذي لم يذق طعاما منذ مدة وهو بحاجة الى الاكل. فأضحت كلمة “انا جوعان” من أكثر الكلمات التي نسمعها من كافة الفئات العمرية، شباب وأطفال ومسنّين، حتى انها تحولت الى شعار يتردد في الشوارع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وطلب العون أصبح منتشرا ولو بكسرة خبز او شق تمرة.

ليس عيباً!

صحيح ان اللبناني لم يتعود على مد اليد او طلب حسنة من أحد، وهذا دليل على كبر نفسه لأنه يستصعب الانكسار والشحاذة. لكن بالمقابل فان فضلات الطعام قد تنجي الكثيرين من الموت، وتعيد البسمة والطمأنينة لشريحة واسعة. لذا المطلوب الا يخجل اللبناني من ضبّ ما تبقى على طاولات المطاعم ليوزعها على المحتاجين. وبنك الطعام كان قام بهذه المبادرة بالاتفاق مع حوالي ٧٠ جمعية، لجمع فضلات الطعام الصالحة والجيدة ووهبها للمساكين. وصدقوا ان بيل غيتس وهو من أثرى اثرياء العالم فعلها يوما، حيث جمع ما تبقى من طبقه في مطعم بنيويورك ثم غادر.

“هدر الغذاء”

في سياق متصل، أظهرت دراسة مشتركة عن “هدر الغذاء” في لبنان، أعدتها الجامعة اللبنانية الأميركية والجامعة الأميركية في بيروت، “ان أكثر من ثلث كميات الطعام تذهب هدرا في البلاد سنويا، وكان برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، أعلن ان أكثر من نصف اللبنانيين بحاجة للمساعدة لتغطية احتياجاتهم الغذائية والمستلزمات الأساسية”.

بالتوازي، اشار الاستاذ المشارك في برنامج التغذية في الجامعة الأميركية حسين حسن لـ “الديار” الى اننا “نُجري ابحاثا كثيرة عن هدر الغذاء، وتوصلنا الى اننا في لبنان نهدر ثلث الطعام الذي ننتجه، في الوقت الذي يوجد أكثر من 60% من المواطنين يعانون من صعوبة الوصول اليه، لافتاً الى ان هناك فرقا ما بين هدر الغذاء وفاقد الغذاء”.

واوضح “ان فاقد الغذاء يحدث اثناء عملية الزراعة، اما الهدر فيحصل اثناء الاستهلاك، ويكون في المطاعم والفنادق والبيوت و”السوبرماركات”، اما قانون مقاومة هدر الغذاء الذي اقره مجلس النواب، فهو معدٌ للسوبرماركات حصرا”.

الحلول

وشرح حسن طرق التغلب على هذه المشكلة فقال: “تكون بالتوعية ثم التوعية، والمطلوب من كل مواطن يرتاد أي مطعم ضبّ الطعام المتبقي وأخذه، وهذا الامر غير شائع في ثقافتنا، لكن من خلال الارشاد يمكن تطبيق هذه الطريقة ، وعلى الجميع تقبّل الفكرة وتنفيذها”، مشيرا الى “ضرورة تثقيف النادل في المطاعم ليسأل الناس ان كانوا يريدون اخذ الفائض الموجود على الطاولة، ليتم توضيبه في علب معدّة لهذه الغاية”.

وقال: “الدراسات بينّت ان المواطن الذي يذهب ليشتري احتياجاته وهو جائع، لديه ميول لهدر الطعام بنسبة أكبر، لذا من المهم تحضير لائحة بالأغراض التي يحتاجها قبل الذهاب إلى السوق، لان الشراء بشكل عشوائي أيضا يزيد من الهدر”، ونصح اثناء عملية الطهي “اتباع وصفة محددة، كونها تساعد في الحصول على المقادير الصحيحة والدقيقة وعدد الحصص المطلوبة للأشخاص”. ودعا الى “تفريز بقايا الوجبات لاستهلاكها في وقت لاحق، كونها لا تفسد في حال كانت الكهرباء متوافرة”، وطلب “بالتركيز على الاطباق الصغيرة الحجم أثناء الاكل، لان الدراسات أظهرت انه كلما كان الطبق أصغر، فان الشخص يهدر طعاما اقل، وكلما اتسع زادت كميات الأطعمة المهدورة”.

فضلات المغتربين وجبات دسمة للمحرومين

“الديار” راقبت على مدى 14 يوما عددا من المطاعم في كل من الزلقا وضبيه وفرن الشباك وعرمون والحمرا والاشرفية والجميزة والدورة ورأس النبع وبدارو، وتبين أن حوالي 100 شخص من كافة الاعمار كانوا يبحثون عن طعام في الحاويات المركونة بجوار المطاعم، في حين ان 250 طفلا ينبشونها لجمع ما تيسر من البلاستيك والزجاج والكرتون والحديد، كما يأخذون الملابس والاحذية وانصاف الشطائر المرمية في صناديق المهملات”. واشار الى “ان عملية مراقبة هؤلاء كانت خلال ساعات محددة من اليوم”.

وفي هذا السياق، كشفت السيدة مريم شاتيلا عن مشاهداتها لـ “الديار” فقالت: “الشظف دفع الناس للأكل من فضلات المغتربين، ومن خلال شرفة منزلي التي تطل على مطعم بربر في “الحمرا”، اراقب المئات ينتظرون لساعات امام الباب لجمع المأكولات التي ترمى في القمامة لأخذ ما تيسر لهم ،وأحيانا يشربون بواقي عبوات المياه او المشروبات الغازية، غير مكترثين بالميكروبات او الفيروسات التي قد يلتقطونها”.

مكان القوانين “الحيوية” أدراج المجلس!

الجدير ذكره في هذا السياق تحديداً، ان مجلس النواب كان سنّ قانون مقاومة “هدر الغذاء”، وتوزيع الفائض منه للمحتاجين اليه. ويشار هنا الى ان النائب بيار بو عاصي عمل على هذا الموضوع عندما كان رئيس اللجنة الفرعية المنبثقة عن اللجان النيابية المشتركة المكلفة درس اقتراح القانون، وصرح وقتذاك “ان لبنان متجه لان يكون البلد الخامس الذي يضع قانونا لوهب الغذاء للفقراء”، وشدد على “ضرورة التفريق بين بقايا الطعام والفائض منه، لان البقايا لا يمكن وهبها”. لكن، هل ان وزارتي المال والشؤون الاجتماعية تتابعان القرارات التنظيمية لهذا القانون؟ واين أصبح تطبيق هذا القرار اليوم؟”.

في الخلاصة، ان الحل يكمن في تكثيف حملات الارشاد والتوجيه والتوعية، حيث يفترض ان يعرف الناس ان رمي الفائض من الأطعمة جرم انساني، ما دام هناك من يشتهيه. وما تقوم به بعض الجمعيات بالاتفاق مع أصحاب المطاعم لأخذ الفائض من الطعام، خطوة رحيمة لمئات عشرات العائلات. والبحث لن يقتصر على المطاعم والمناسبات المختلفة كالقربانة واعياد الميلاد، لأخذ المناسب من الطعام والمقبول وتوزيعه على البائسين.

ندى عبد الرزاق- الديار

مقالات ذات صلة