لودريان يصطدم بالممانعة والاستعصاء: هل يصبح فرنجية رئيساً بالأمر الواقع؟؟

مخاض لودريان الرئاسي: اصطدام بالممانعة والاستعصاء… هل يستعجل تدخّلاً إيرانياً؟

ما لم يستطع تحقيقه جان- إيف لودريان حول تشكيل حكومة لبنانية وإجراء الإصلاحات، عندما كان وزيراً للخارجية الفرنسية، لن يكون سهلاً عليه إحداث خرق في الاستعصاء اللبناني الداخلي، كمبعوث خاص للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. هذا ما أوحت به الأجواء اللبنانية خلال زيارة لودريان إلى بيروت، والتي استمرت ثلاثة ايام، عقد خلالها لقاءات مع كل الأطراف، بمن فيهم “حزب الله”، مستمعاً إلى آرائهم في الملف اللبناني، من دون أن يتبيّن أنّ هناك مبادرةً فرنسية جديدة مُتفقاً عليها مع السعودية، ولا أيضاً هناك تخلٍ نهائي عن المقايضة، حين تبنّت باريس اسم مرشح الممانعة سليمان فرنجية. لكن من السابق لأوانه استنتاج أنّ لودريان لا يحمل شيئاً حول لبنان، إنما قد تتبلور رؤية فرنسية جديدة بعد تقييم نتائج اللقاءات في بيروت لطرحها على السعودية وعلى دول اجتماع باريس الخماسي.

حرّكت زيارة لودريان المياه الراكدة سياسياً ورئاسياً في لبنان، خصوصاً بعد الجلسة الـ12 لانتخاب رئيس الجمهورية، واصطفافاتها، وما تلاها من تمترس سياسي لدى محور المقاومة المتمسّك بسليمان فرنجية والمعطّل للنصاب وتطييره للجلسة للدورة الثانية من الجلسة الانتخابية، وهو المحور الذي عاد إلى النغمة ذاتها عبر “كتلة الوفاء للمقاومة”، أي الدعوة إلى الحوار من دون شروط مسبقة، وصولاً إلى التفاهم على خيار مناسب لرئاسة الجمهورية، وإن كانت أعلنت أنّها تنظر بإيجابية إلى الدور المساعد الذي يمكن أن يؤدّيه بعض أصدقاء اللبنانيين الإقليميين والدوليين، في إشارة إلى الدور الفرنسي تحديداً، فيما الحوار الذي تنشده يدور حول مرشحها نفسه كخيارٍ وطني توافقي لا يطعن ظهر المقاومة.

يتبين أنّ زيارة لودريان إلى بيروت هي استطلاعية. الكلام الوحيد الذي نطق به لودريان للإعلام أعاد التذكير بما كان يطرحه سابقاً كوزير للخارجية الفرنسية، من أنّ الحل يأتي بالدرجة الأولى من اللبنانيين. لكن لودريان يعرف حجم الاستعصاءات القائمة وعجز الفرقاء اللبنانيين عن إنجاز تسوية للرئاسة والتوصل إلى حلٍ شاملٍ للأزمة في البلد. لذا يستعيد المصطلحات نفسها التي كان يُطلقها في السابق، فـ”الوقت ينفد أمام جهود منع انهيار لبنان أو زواله. وبما أنّ السياسيين اللبنانيين لا يساعدون بلدهم، فهم مذنبون”. كلام لودريان في 2023 هو نفسه في 2021، حين كانت المبادرة الفرنسية التي رعاها الرئيس إيمانويل ماكرون تسعى إلى تسوية لتشكيل حكومة والشروع في الإصلاحات. حتى أنّ زيارته إلى بيروت التي لم تحمل جديداً ولقاءاته الماراثونية، تشبه زيارة ماكرون الأولى إلى بيروت بعد انفجار المرفأ في 4 آب (أغسطس) 2020، حين التقى ممثلي القوى السياسية والطائفية لحضّهم على الحوار وتأنيبهم ايضاً للتوصل إلى حلول للأزمات في لبنان.

تؤشر جولة لودريان إلى أنّ لا حلول سريعة للمأزق الرئاسي في ظلّ أسوأ أزمة يشهدها لبنان منذ الحرب الأهلية المدمّرة التي لم تنتهِ بمجيء التشكيلة الرسمية والأهلية والميليشيَوية إلى سدّة الحكم، والتي قادت المسار اللبناني بعد اتفاق الطائف، وعبثت بكل مقوماته وأوصلت البلد إلى الانسداد، وها هو يقترب من لحظة الانفجار الكبرى، بسبب العجز عن التقدّم نحو التسوية وانتخاب الرئيس وخوض غمار الإصلاح لإنقاذ ما تبقّى من مقومات وجوده. ويبدو أنّ الرهانات الكثيرة التي انعقدت على أن تُطلق القمّة السعودية – الفرنسية بين الرئيس إيمانويل ماكرون والامير محمد بن سلمان، حراكاً جديداً أو مبادرةً مشتركة لدفع الحل اللبناني إلى الأمام، بدت مجرّد تكهنات، إذ إنّ زيارة لودريان لا تحمل مبادرة تعكس اهتماماً عربياً ودولياً مستجداً بالوضع اللبناني، واعتباره أولوية من بين ملفات المنطقة والعالم، فالأمور لا تزال عند عتبة الدعوة إلى انتخاب رئيس، سيتبيّن ما إذا كان الفرنسيون يحملون معها مقاربة جديدة للشأن الرئاسي، أو مجرد أفكار وجسّ نبض الأطراف الداخلية حول إمكان التوافق.

وفي الواقع، بات الرهان على الخارج سبيلاً وحيداً للخروج من المأزق، لكن الامر يتطلّب مبادرةً شاملة بين دول عربية وإقليمية ودولية مقرّرة في الشأن اللبناني، وهو ما لا يحمله لودريان حالياً، ليتمكن من إحداث خرق لبناني جدّي يسمح بانتخاب رئيس عبر تسوية شاملة. حتى الرهانات التي انعقدت على القمّة العربية الأخيرة في السعودية بأن تكون حاضنة للبنان لإنجاز استحقاقاته الدستورية، تلاشت سريعاً مع صدور إعلان جدة الذي تضمّن في بنوده فقرة خجولة مكرّرة سابقاً حول لبنان. يعني ذلك أنّ التدخّل العربي والدولي في الشأن اللبناني لا يزال عاماً، ولم يرتقِ إلى مستوى البحث عن مرشح يمكن أن يلتقي الفرقاء حول اسمه، فحتى اتفاق المسيحيين على اسم جهاد أزعور لم يحظ بدعم خارجي، وهو ما شكّل نقطة ضعف في معركته الرئاسية. وعلى هذا، يظهر لبنان كحلقة ضعيفة طالما أنّ النقاش الجدّي لم يصل إلى مرحلة تستدعي الضغط انطلاقاً من محصّلة عربية وإقليمية بتوازنات جديدة تطرح قضاياه على بساط البحث.

المشكلة التي واجهها لودريان أيضاً هي أنّ كل طرف حاول تجيير الموقف الفرنسي لمصلحته، انطلاقاً من تفسيره للتطورات الخارجية بأنّها تثبت وجهة نظره. فـ”الثنائي الشيعي” أبلغ الفرنسيين تمسّكه بسليمان فرنجية وعدم التخلّي عنه، فيما الكتل المسيحية والتحالف الذي دعم أزعور، اعتبر أنّه أسقط فرنجية، وفرض على الفرنسيين مقاربة جديدة.
ويبدو أنّ تمسّك “حزب الله” بمرشحه سليمان فرنجية، يُظهر أنّه غير منفتح على الحوار إلاّ حول مرشحه “المقاوم”، وهذا يعني إطالة أزمة الفراغ. وفي المقابل، تبدو القوى الداعمة لأزعور متمسّكة به، على الرغم من حسابات بعض أطرافها، لاسيما “التيار الوطني الحر” برئاسة جبران باسيل. ويُظهر التمسّك بالمرشحين، أنّ توازنات الداخل ولدى غالبية القوى لم تصل إلى مرحلة الحوار أو التفاوض مع الخارج، فما لم يكن ممكناً التفاوض على اسم مرشح إنقاذ، سيطول أمد الفراغ ومعه الانهيار والأزمات، الامر الذي يُفرغ مؤسسات الدولة، وهذا ربما ما يراهن عليه “حزب الله” لدفع تيارات مسيحية أساسية للاقتناع بخياره أو التفاوض معه على سلّة تفاهمات جديدة.

بصرف النظر عمّا سيحمله لودريان في زيارته المقبلة إلى بيروت، لا يبدو “حزب الله” في وارد التخلّي عن مرشحه سليمان فرنجية، وليس بصدد التراجع عنه. وعلى الرغم من تقدّم المرشح جهاد أزعور على فرنجية في الجلسة الانتخابية الأخيرة، لا يزال الحزب يراهن على تطورات إقليمية وعربية تدعم مرشحه، وبالنسبة إليه، هو الخيار المتاح لسدّ الفراغ في موقع الرئاسة. موقف “حزب الله” ينطلق من اعتبارات إقليمية، فهو لا يقبل التنازل أو الذهاب إلى خيار لا يشكّل بالنسبة إليه ضمانات تتعلّق بدوره، إن كان في المقاومة أو حساباته الإقليمية، وهو أمر يؤثر على الحراك الفرنسي الذي لا يزال يرى بأنّ انتخاب رئيس للبنان يتطلّب تغطية أساسية من “حزب الله”.

الفراغ في البلد يُسأل عنه “حزب الله” بالدرجة الاولى، وما الذي يريده للتنازل عن سليمان فرنجية والتفاوض حول اسم ثالث. وهذا ما قد يدفع لودريان إلى بلورة مقاربة يطلب فيها المساعدة من الإيرانيين، للبحث حول مخرج للأزمة. فعندما يُسأل الحزب عن إمكان ذلك، يردّ بتمسّكه بفرنجية على أنّه مرشح توافق، ولا يطعن ظهر المقاومة. والحقيقة أنّ الحزب هو الطرف الأكثر قدرة على التعطيل، ويمكن لبنيته أن تصمد مهما طال الفراغ والانهيار في البلد. لذا يراهن على الوقت لاستسلام الآخرين الذين يتأثرون أكثر بتحلّل الدولة ومؤسساتها، إضافة إلى التطورات الإقليمية التي يرى أنّها تصبّ في مصلحته. وعلى هذا الاحتمال يراهن بأن يصبح فرنجية رئيساً بالأمر الواقع؟

ابراهيم حيدر- النهار العربي

مقالات ذات صلة