الحزب معزول طائفياً على نحو غير مسبوق: هل يحوّل الفراغ إلى استراتيجية رئاسية له؟
سجلّ الإئتلاف المعارض لترشيح سليمان فرنجية نقاطاً معنوية وسياسية ضدّ فريق الحزب في جلسة البرلمان لانتخاب رئيس للجمهورية في 14 الجاري. والأمر هنا لا يتّصل وحسب بعدد الأصوات التي نالها جهاد أزعور مقابل تلك التي نالها فرنجية.
فإلى جانب فارق الأصوات بين المرشحَين والذي عزّز موقف معارضي الحزب في أي مشاورات مقبلة بشأن الرئاسة وحدّ من قدرة الحزب على الذهاب أبعد في مناوراته الرئاسية، فإنّ مجريات الجلسة كشفت فريق الحزب أكثر أمام الداخل والخارج. فانسحابه من الجلسة وتعطيله نصاب الدورة الثانية أعاد هذه المرّة وبقوّة طرح التساؤل عمّا إذا كانت إطالة أمد الفراغ الرئاسي تحوّلت إلى استراتيجية لدى الحزب لإنهاك خصومه وتفريقهم وجعلهم أكثر قابلية للقبول بشروطه تحتَ وطأة الضغوط الداخلية والخارجية.
والحال فإنّ الحزب وبعد أن كان يطالب خصومه بالإجماع على مرشّح واحدٍ لخوض المنافسة الانتخابية أكدّ سلوكه خلال الجلسة أنّ موقفه حتّى الآن شبيه بموقفه قبيل انتخاب الرئيس ميشال عون: فإمّا انتخاب مرشّحه وإمّا الفراغ. وهذا أمر يضعف حجّة الحزب ويقوّى حجّة خصومه، داخلياً وخارجياً، ولاسيما أن الفراغ يحصل هذه المرّة بخلاف المرّة السابقة في ظلّ انهيار اقتصادي عميم.
عزلة الحزب
إلى ذلك وبالرغم من عدم قدرة الائتلاف المعارض لفرنجية على تثمير النقاط التي حقّقها في الجلسة سياسياً لجهة دفع الحزب للتراجع عن موقفه المتمسّك بترشيح رئيس تيار المردة، فهو استطاع بطيفه الواسع والمتنوع سياسياً وطائفياً أن يعيد إنتاج بلوكاً شعبياً معترضاً على سياسات الحزب. وهو بلوك متشكّل أساساً من قاعدة مسيحية صلبة ترفدها قاعدة درزية قويّة وأخرى سنّية تحاكي حساسية سنّية كامنة. وهذا أمرٌ يظهر الحزب معزولاً طائفياً على نحو غير مسبوق منذ توقيعه اتفاق مار مخايل مع التيار الوطني الحر في العام 2006، وإن كان “فريق أزعور” في المقابل معزولاً شيعياً.
هذا الواقع الجديد لا يمكن للحزب أن يواصل المكابرة عليه إلى ما لانهاية، وإن كان حتّى الآن لا يظهر استعجالاً لتطويقه ومعالجة ذيوله، خصوصاً أنّه غير مستعدّ بعد للتراجع عن ترشيح فرنجية لأسباب متصلّة أساساً بحضوره في لبنان وحضور إيران في المنطقة في اللحظة الإقليمية والدولية الراهنة.
الحزب… ورهاناته
الحزب يراهن على حقيقة أنّ فريقه أكثر تماسكاً على المدى البعيد من إئتلاف مرشّحي أزعور، الذي تتشارك أطرافه أولوية إسقاط فرنجية أكثر منها أولوية ايصال مرشّحها إلى قصر بعبدا. وهذا ما يدفع الحزب الى التمسّك لفترة أطول بفرنجية ما دام يراهن على إمكان أن تدفع حال المراوحة الرئاسية، معطوفة على تبدّل المعطيات الخارجية، وليد جنبلاط وجبران باسيل إلى سلوك دروب رئاسية جديدة قد تؤدي بهما إلى الحوار مع الحزب حول الملف الرئاسي.
بالتالي فإنّ “المعارضة”، وإن استطاعت تسجيل نقاط ضدّ فريق الحزب على المدى القريب، فإنّ الحزب يخوض ضدّها معركة بنفس طويل وعلى المدى البعيد وهو ما قد ينهكها ويهدّد تماسكها.
باب الحوار بين الحزب وباسيل غير مغلق، وإن كان غير مفتوح بعد على مصرعيه، طالما أنّ الحزب يرفض التخلّي عن ترشيح فرنجية كشرط مسبق لقبول رئيس التيار الوطني الحر الإنخراط في حوار رئاسي معه.
لكن دائماً يمكن التقاط إشارات من قبل الطرفين بشأن إمكانية الحوار بينهما، وإن كان كلاهما لا يستعجله حتّى الآن. لكنّ الأهمّ أنّ ظروف الحوار لم تنضج بعد لا لأسباب متصلة بالموقف الرئاسي لكلّ من التيار والحزب وحسب، بل لأن الظروف المحلية والخارجية المحيطة بالانتخابات الرئاسية ما تزال ضبابية ورخوة.
مراوحة
المراوحة الرئاسية ليست بسبب الاستعصاءات الداخلية وحسب، بل أيضاً بسبب عدم نضوج التقاطعات الدولية والإقليمية بشأن لبنان. فأجواء زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى باريس والتي يطغى عليها الطابع الإقتصادي، لا تدلّ على أنّ المملكة مستعدّة الآن للتفاوض المفتوح بشأن لبنان بما يظهرها منخرطة في الملف اللبناني أكثر ممّا تريد. حتّى لو كان هذا التفاوض مع فرنسا الحليف الوثيق للمملكة، التي تعتبر الملف اللبناني أولوية قصوى باعتبار أنّ لبنان هو آخر موطئ لنفوذها في المنطقة.
لكن في المقابل لم تصدر أي إشارة عن السعودية توحي بأنّها قد تعطّل أي حلّ فرنسي للأزمة الرئاسية يحظى بغطاء كافٍ داخلياً أو خارجياً.
غطاء مفقود
تأمين هذا الغطاء ما يزال متعذراً على فرنسا وعلى سواها. أي أنّ أي جهة خارجية غير قادرة الآن على انتاج حلّ للأزمة الرئاسية والتي قد تتحوّل في حال استطالت أكثر فأكثر إلى أزمة نظام تنقل التسوية من مستوى انتخاب رئيس جديد إلى مستوى أعادة النظر في أسس النظام السياسي.
لكن ما يزال من المبكر الجزم بحتمية الانتقال من تسوية حول الرئاسة إلى تسوية حول النظام، ولو كان هذا الإنتقال احتمالاً وارداً وربما متقدماً، نظراً إلى تفاقم الاحتقان السياسي والطائفي الذي يعيد إلى الواجهة للمرّة الأولى منذ انتهاء الحرب الأهلية مسألة البحث في أصل النظام السياسي.
فحتّى جبران باسيل الذي سبق الجميع إلى التشكيك بالنظام الحالي يقول إن البحث في تعديله أفضل في ظلّ وجود رئيس للجمهورية. مع الأحذ في الإعتبار أن المناخ السياسي والشعبي المسيحي المتصلّب ضدّ الحزب بعد الانهيار والأزمة الرئاسية يشكلّ عامل ضغط على باسيل في أي حوار مستقبلي بينه وبين الحزب. أي أنّ رئيس التيار لا يسعه الخروج عن “الإجماع المسيحي” دون أن دفع ثمناً باهظاً من رصيده الشعبي المتناقص، وهذا أحدُ العقبات أمام الحوار بين الجانبين.
حلّ بعيد
مسألة بأهمية التفاوض حول النظام السياسي لا تحصل بدفع داخلي وحسب، إذ أن الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بلبنان حاسمة في رسم سقف التسوية السياسية الموعودة والذي ما يزال حتّى الآن عند مستوى انتخاب رئيس جديد، مع أرجحية أن تتوسّع التسوية لتشمل رئاسة الحكومة والحكومة وربّما بعض التعيينات الرئيسية.
والأمر الأكيد حتّى الساعة أنّه لا تسوية قريبة للأزمة سواء كانت رئاسية أو أكثر من ذلك.
فإلى جانب الاستعصاءات الداخلية الكثيرة والمتشعّبة فإنّ المناخات الإقليمية والدولية حول لبنان لا توحي بحلّ سريع لأزمته. ففرنسا غير قادرة على انتاج هذا الحل لوحدها بطبيعة الحال، خصوصاً أنّ الاتفاق الإيراني – السعودي لم ينعكس بسرعة على لبنان كما تمنّت باريس ومعها فريق الحزب.
والحال فإنّ هذا الاتفاق بات يحتاج إلى قراءة متأنية أكثر لاستنباط آفاقه سواء لجهة طبيعة وحدود العلاقة الجديدة بين طرفيه أو لجهة انعكاساته في دول المنطقة. فصحيحٌ أن زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى طهران أكّدت تمسّك كلّ من ايران والسعودية بالاتفاق لكنّها أظهرت أيضاً أنّ طريق استئناف العلاقات بينهما ليست مفروشة كلّها بالورود، فالوقت كفيل بإظهار تفاصيل تحتاج معالجتها إلى وقت.
وهو ما أشّرت إليه الاعتبارات الشكلية واللوجستية التي تخللتها الزيارة سواء لجهة الإشكالية التي أثارتها صورة الجنرال قاسم سليماني خلال المؤتمر الصحافي لبن فرحان، أو لجهة تأخّر افتتاح السفارة السعودية في طهران بسبب مماطلة السلطات هناك في تغيير اسم الشارع حيث تقع السفارة والذي يطلق عليه اسم “نمر النمر”.
بين الرياض وطهران
إلى ذلك تردّدت معلومات عن اختلاف أولويات كلّ من طهران والرياض في ما يخصّ تطبيق الاتفاقية الأمنية الموقعة بينهما عام 2001 والتي نصّ عليها اتفاق بكين، فبينما تريد السعودية البدء في تنفيذ بنود معينّة تصرّ إيران على البدء في تنفيذ أخرى. كما تردّد أن الوزير السعودي حدّد مهمّة زيارته إلى العاصمة الإيرانية بنقل دعوة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الرئيس حسن روحاني وتفعيل مسألة فتح السفارة السعودية في طهران. أي أنّ زيارته ليست بغرض التفاوض مع الجانب الإيراني بشأن المسائل المطروحة بين البلدين.
هذا الستاتيكو المتأرجح بين الحانبين بسبب محاولة طهران تحصيل ما أمكنها من المكاسب مقابل تسهيلها تطبيق الاتفاق على طريقة تعاملها مع المفاوضات النووية مع الغرب، من شأنه أن يؤخّر أو يفرمل الحلّ في لبنان. أي أن يعقّد أكثر المبادرة الفرنسية التي اكتسبت زخماً جديداً لحظة توقيع اتفاق بكين، لكنّ هذا الزخم يمكن أن يتراجع الآن لأنّ السعودية لن تعطي ايران أوراقاً مجانية في لبنان لا لأسباب متصلة بنفوذها فيه بالضرورة، بل لأسباب متعلّقة بالمقاربة الشاملة للمملكة لاتفاق بكين. وهذا أمر وإن كان لا يُترجم بالضرورة بعرقلة السعودية لأيّ حلّ للأزمة اللبنانية، فهو يجعلها أكثر حذراً وتأنياً في بحث الملف اللبناني مع أي جهة إقليمية ودولية. وفي المقابل فإنّ موقف الحزب وإيران سيزداد تصلّباً ضمن لعبة شدّ الحبال في المنطقة؛ وهذا كلّه يؤخّر التسوية اللبنانية، إلّا إذا “زمَطَ” الحلّ اللبناني في لحظة تقاطع انفراجات إقليمية ودولية، على خط العلاقات الإيرانية – السعودية والمفاوضات بين واشنطن وطهران للتوصل إلى “اتفاق تهدئة”. لكن هل المناخات الإيجابية الخارجية كافية لوحدها لانتاج حلّ للبنان؟ التعقيدات الداخلية لا توحي بذلك أبداً.
ايلي القصيفي- اساس