المكوّن السُنّي غائب وينتظر على هامش الصراع بين الإرادتين الشيعية والمارونية!

ماذا يعني صناعة تسوية رئاسية بغياب المكوّن السُنّي المقتدر؟

في مفهوم النظام الطائفي الذي أعاد انتاجه اتفاق الطائف بصيغة المناصفة القائمة حاليًا، يظهر أن لبنان يختبر لأول مرة معركة إنجاز التسوية الرئاسية من دون أن يكون “المكون السني” بمواصفاته التقليدية، ركنًا أساسيًا في صناعتها؛ لا بل إنه بمنزلة الغائب أو يقف منتظرًا على هامش الصراع بين الإرادتين الشيعية والمارونية، كما يجري التسويق له.

غياب ضابط الإيقاع
هذه المفارقة التاريخية، قد تبدو نتيجة طبيعية لما أفرزته الانتخابات البرلمانية بخروج تيار المستقبل من الحياة السياسية، ونتيجة تحولات كبرى طرأت على الدور السعودي التقليدي تجاه الطائفة السنية في لبنان. لكنها تعكس في جانب “مشرق” -لولا النظام الطائفي- نوعًا من الديناميكية والمرونة في الساحة السياسية السنية، والمفقودة في ساحات أخرى، وإن كانت علتها الجوهرية أنها تأتي بمرحلة غير منتجة في برلمان عالق ومعطل.

بعد جلسة 14 حزيران كما قبلها، ناقش كثيرون مسألة غياب قوة سنية وازنة عن صياغة التسوية الرئاسية، خصوصًا أن تجربة سعد الحريري –رغم فشلها– ترجمت دور ضابط الإيقاع بين رئاسة الجمهورية المارونية، والثنائي الشيعي الممسك برئاسة البرلمان أيضًا، عبر تشكيل حكومة تحاصصية محكومة بالثلث المعطل، وتوزيع المناصب في الإدارات العامة، كجزء محوري من التسوية.

وهكذا، يمكن قراءة سردية الندم على دور القوى السُنية في صناعة التسوية الرئاسية، التي يقف مصيرها على أبواب الحراك الإقليمي وزيارة الموفد الفرنسي، بأنها خسارة الركوب في مشروع استكمال الطائف والمحاصصة مع شركائهم الموارنة والشيعة، إضافة إلى الأقليات الطائفية الأخرى.

الاقتراحان الكبيران
وإذا كانت “الحريرية السياسية” منحت سنّة لبنان بعد الطائف زخمًا في دورهم داخل هذا النظام الطائفي الذي أثبت عقمه، وكانت ترتكز على قوة الرئيس الراحل رفيق الحريري الاقتصادية وعلاقاته الإقليمية ودوره المحوري داخليًا وخارجيًا، يظهر أن القوى التقليدية تتعامل مع القوى السنية الحالية على قاعدة أنها لأول مرة لا تملك بوصلة سياسية قوية ومستقلة بذاتها. في حين، يبدو أن السنة في وسط الاستقطاب القائم، يدفعون ثمن انهيار نموذج “الاقتصاد السياسي” الذي نشأ ما بعد الطائف، وهو ما وضعهم بموقع المدافع عنه وعن مكاسبهم فيه، من دون امتلاك موارد وأدوات للدفاع الفعّال. وكأنه دفاع من لا يملك سلاحًا.

في المقابل، ثمة مقترحان أكثر قابلية للتحقق لدى شركائهم في النظام الطائفي: مقترح مسيحي يميل إلى شكل من أشكال الفدرالية أو بدرجة أقل “اللامركزية الموسعة”، ومقترح شيعي يميل إلى استراتيجية الإمساك الكامل بالنظام مع حفظ ماء وجه الطائف. وفي الحالتين، يبدو المكون السني ملحقًا لا مقررًا.

وواقع الحال، أظهرت توجهات الأصوات السنية في الجلسة الثانية عشرة الأخيرة التي فشلت في انتخاب رئيس في ظل الانقسام بين المرشحين جهاد أزعور وسليمان فرنجية، بأن خياراتهم توزعت كالآتي: بين التصويت لصالح مهادنة قوى الأمر الواقع من الطرفين، وبين التصويت ضمن خيارات مدنية غير طائفية، وبين التصويت استنادًا إلى خيارات مناطقية وعائلية ومصلحية شخصية.

لكن الخيار المدني واللا طائفي، جاء في لحظة اتخذت فيها مختلف القوى التقليدية الأخرى، خيارات طائفية جدًا، فظهر أصحابه وكأنهم خارج حلبة الصراع.

لذا، وجد مراقبون أن معظم النواب عن المقاعد السنية، بدوا في الجلسة الأخيرة عاجزين عن لعب حتى دور “بيضة القبان” في الاستحقاق الرئاسي، وهم يقفون على عتبته بانتظار إشارة إقليمية، أو للاصطفاف لاحقًا إلى جانب الرابح في المعركة، علّها تتيح بعض المكاسب الجانبية.

قراءات متناقضة
هذا التباين، يظهر جليًا في تحليل أقطاب مختلفة لدور المكون السني في الاستحقاق الرئاسية، عند سؤال “المدن” لبعض النواب عن قراءتهم للمشهد الحالي.

وعمليًا، لا يتفق مختلف النواب على مقاربة أن المكون السني يخرج لأول مرة من صناعة التسوية الرئاسية.

وفيما صوتت كتلة “التوافق الوطني” السنية برئاسة النائب فيصل كرامي لصالح سليمان فرنجية، يقول نائبها طه ناجي لـ”المدن”: “لا نوافق أبدًا على القول بأن المكون السني خارج التسوية الرئاسية، بل إن نتائج الجلسة الأخيرة، أثبتت أن الصوت السني حاسم ومحوري في هذا الاستحقاق. ورغم أن تعليق تيار المستقبل لعمله السياسي، أدى إلى حدوث فجوة في بادئ الأمر، لكن هناك نحو 16 نائبًا جديدًا من أصل 27 نائبًا سنيًا، سرعان ما رتبوا أوضاعهم، فظهرت كتلة الاعتدال الوطني، ومن ثم لقاء النواب المستقلين، ومن ثم تكتل التوافق الوطني، لا نرى أن هناك ما يدعو إلى أي احباط”.

وفي حين يواظب النائب أشرف ريفي على الوقوف في الجبهة معادية للنواب الموالين لحزب الله، يقول لـ”المدن”: “إن جلسات الانتخاب الرئاسية، أظهرت أن المكون السني في مرحلة انتقالية وإعادة تموضع بين من يصفهم بـ”السياديين” وبين الموالين لحزب الله وبين طرف ثالث يأخذ خيارات مختلفة”. ويرى ريفي أن “السنة ينتظرون حاضنة إقليمية لبلورة دورهم في لبنان، وأن الأكثرية (وهو ضمنًا) تتجه أنظارها إلى السعودية، وجزء آخر نحو تركيا. ويضيف: “السعودية لم تغب بل غيرت طريقة تعاملها ومقاربتها للملف اللبناني”.

في المقابل، يحرص نائب بيروت إبراهيم منيمنة مع قلة آخرين في البرلمان على تمييز تموضعهم خارج الاصطفاف الطائفي. ويقول لـ”المدن”: “ثمة إصرار دائم على تطييف مختلف الاستحقاقات كما يحصل راهنًا في الاستحقاق الرئاسي، في محاولة لخلق توازنات طائفية هدفها تكريس نظام المحاصصة وحفظ المكاسب داخله، وهو ما كان تاريخيًا يلحق الضرر بالاستحقاقات الدستورية”.

وينظر إلى التحولات الطارئة على المكون السني في البرلمان بإيجابية، على قاعدة أنها أتاحت الفرصة لتقدم نواب مستقلين يديرون معركتهم وخلافاتهم وفق الأجندة السياسية- الاقتصادية وليس وفق الحسابات الطائفية. بل يقاومون النظام القائم.

ويضيف منيمنة: “أجد نفسي واحدًا من النواب الذين يدفعون نحو الدولة المدنية والالتزام بالدستور، وهو موقف متقدم في ظل عقم النظام الطائفي، ما دفع القوى التقليدية إلى الاعتراف بأثر وجودنا في البرلمان والتعامل بندية مع خياراتنا وطروحاتنا”.

ماذا عن المرحلة المقبلة؟
يتعامل النواب السنة الموالين لحزب الله، وعلى رأسهم تكتل “التوافق الوطني”، على أنهم أصحاب مشروعية سياسية وبرلمانية في لعب دور مركزي بالاستحقاقات المقبلة، وعلى رأسها تشكيل الحكومة المقبلة بعد تكليف رئيس لها. وعلى إثر سقوط دور رؤساء الحكومة السابقين، قد يجد كرامي نفسه مرشحًا طبيعيًا لرئاسة الحكومة ولكونه رئيس كتلة برلمانية، رغم صعوبة وصوله إلى هذا المنصب.

وفي إشارة غير مباشرة، يقول طه ناجي: “سنلعب دورًا هامًا جدًا عند تشكيل الحكومة المقبلة بعد إتمام دورنا في انجاز الاستحقاق الرئاسي”.

وبينما يراهن إبراهيم منيمنة على الالتزام بالدستور في انجاز الاستحقاقات خارج منطق أن تسمي كل طائفة مواقعها، يبدو ريفي أكثر تمسكًا بالمعادلة القائمة. ويقول: “ما نتطلع إليه أن نكون مكونًا كامل الوجود، وأن نسترد حقوقنا في الإدارة العامة، وأن نقاتل لمراكزنا مثلما نتفهم مقاتلة المكون المسيحي للحفاظ على رئاسة الجمهورية ضد محاولة فرض مرشح المكون الشيعي”.

قراءة مستقبليين قدامى
في هذا الوقت، يجد القيادي السابق في تيار المستقبل مصطفى علوش، أن المكون السني هو من أخرج نفسه عن طاولة التفاوض راهنًا، أكان بفعل خروج تيار المستقبل من السباق، أم نتيجة خروج رؤساء الحكومة السابقين من المعادلة البرلمانية.

ويعتقد في حديث لـ”المدن” بأن هذا المشهد أفرز ثلاث فئات من النواب السنة: أكثر من ثلث النواب السنة يوالون حزب الله. فئة متوسطة توالي القوى التقليدية لـ14 آذار، وفئة صغيرة ضائعة في خياراتها السياسية.

ويعتبر أن المكون السني يواكب سياسيًا تداعيات قرار السعودية لجهة إعطاء فرصة للتفاعل الدولي والخروج من الاصطفاف المذهبي، على قاعدة التعامل مع لبنان كدولة لا أن تكون راعيًة لطائفة.

ويقول: “هذا الواقع، خلق ديناميكية جديدة. في السابق، ربما لم يكن مفيدًا أن يكون السنة على خيار واحد، لكنهم حاليًا خسروا قدرتهم وفاعليتهم في التأثير”.

جنى الدهيبي- المدن

مقالات ذات صلة