عودة أشرطة الكاسيت… نوستالجيا حياة كاملة
القاعدة تقول “كل شيء قديم يمكن أن يصبح جديداً مرة أخرى”، واليوم في وقت بدأ فيه الحديث عن إطلاق مطربين بالذكاء الاصطناعي، يعود البشر إلى موضة بدأت منذ ما يقارب الـ100 عام، مسترجعين شريط الكاسيت، ومتجاهلين كل ما يوفره لهم عصرهم من تطورات تكنولوجية بأجهزة ذكية وخدمات موسيقى متنوعة ومكتبات موسيقية ضخمة متاحة بكسبة زر واحدة، وكل ما منحتهم من سهولة وطرق متعددة للاستماع إلى الموسيقى من كل مكان وفي أي وقت يشاؤون. وربما نستغرب أكثر إذا ما علمنا أنه لا يزال البعض يحتفظ بصندوق خاص بأشرطة الكاسيت القديمة، التي تعود إلى عشرات السنين.
فما سبب شيوع هذا الاتجاه ثانية؟
العودة إلى الكاسيت
الحقيقة أن القضية ليست جديدة تماماً، إذ بدأت الشركات منذ ما يزيد على خمس سنوات في الإعلان عن إنتاجات موسيقية على أشرطة الكاسيت. وبحسب تقرير لمنصة “لومنيت” المتخصصة ببيانات الترفيه، تضاعفت مبيعات الكاسيت بخاصة بين عامي 2020 و2021، حيث قفزت من 173 ألفاً إلى 343 ألفاً، واستمر هذا الاتجاه في عام 2022، حيث تجاوزت مبيعاته 215 ألفاً. وتأتي هذه العودة تماشياً مع رغبة الفنانين أيضاً، إذ استثمر عديد منهم في هذا الاتجاه، بخاصة هؤلاء الذين لم يعاصروا فترة الكاسيت ومنهم، تايلور سويفت وهاري ستايلز وبيلي إيليش.
هيبة الفن
لشريط الكاسيت غلاف يلفه زخم من ذكريات الزمن الجميل، إذ تجتمع الحواس كلها لتصنع منها حالة تفاعل خاصة جداً. وهنا تتحدث جيهان عن حنينها الدائم لتلك الأيام عندما كانت موسيقى فنانها المفضل تصدح من المسجلات التقليدية، وتستذكر جلسات مسائية مع العائلة على شرفة المنزل، كان يوضع الشريط الكاسيت الخاص بأغاني عبدالحليم ويترك طوال السهرة مع تقليبه على الوجهين، أو يتم استبداله أحياناً بعد إنهائه بشريط لمطرب آخر من الزمن الجميل مع تكرار الأمر نفسه، حتى إن لصوت الكاسيت طابعاً ومذاقاً خاصاً جداً.
أما اليوم فالخيارات الواسعة، تجعل من سماع الموسيقى أمراً مشتتاً، فإحساسك بوجوب التحكم الدائم بالأغنية التالية الذي تفرضه سهولة الانتقال من واحدة لأخرى، يجعل الأمر أقل تركيزاً. ففي اللحظة التي تستمع فيها لأغنية ما تفكر في الوقت ذاته بالأغنية التالية، وكأنك في سباق دائم. وتقول سها “يملؤنا الحنين حتى لسلبيات تلك المرحلة، فنسترجع بمتعة كبيرة لحظات انتظار الرجوع والتقديم إلى الأغنية المطلوبة، وكذلك لحظة تخليص الشريط من آلة التسجيل بعد ابتلاعها له، ثم لفه ثانية باستخدام قلم”.
أما جهاد، الذي يمتلئ منزله المفعم بالحنين بقطع قديمة يتصدرها فونوغراف قديم، فيعزى سبب الحنين هذا إلى أن أشرطة الكاسيت تعود إلى زمن كان فيه للفن وزن وهيبة، فهي مرتبطة بعبدالحليم وصباح ووردة وميادة الحناوي وغيرهم كثيرين، وهذا الإحساس بالدفء والجاذبية يجعل من المشغلات الرقمية الحديثة أدوات باردة وخالية من الروح.
بين المادي والرقمي
يؤكد عديد من المعاصرين لحقبة الكاسيت أنه منذ تحول الموسيقى من الشكل المادي المرتبط بالفاينل والكاسيت والـ”سي دي” إلى الشكل الرقمي، حدث انفصال عن حقبة كان فيها للموسيقى طقوس مختلفة ومذاق خاص. وجاءت هذه القفزة بين المادي والرقمي سريعة، بحيث لم تترك لنا متسعاً من الوقت لإدراك ماذا حدث فعلاً بعد أن كان للموسيقى تجربة خاصة. فبمجرد تفكيرنا بعالم الموسيقى متكامل الأدوات من كاسيت أو فينيل أو “سي دي” إلى القارئ كمشغل الكاسيت والمسجلة والفونوغراف و”الووكمان”، نستحضر دفء الحالة وشمولية طقس يشغل الحواس كلها في عملية استحضار وتحضير للموسيقى قبل انبثاقها من المسجل، له شعور مختلف عن كتابة اسمها على محرك بحث إحدى المنصات أو التطبيقات، وكأننا نعيش حالة من الاستماع السائل كما لو أننا نطير في فضاء لا يخضع للجاذبية، هو عالم تحاول الحواس إدراكه طوال الوقت.
حتى إن الكاسيت نفسه يشعر ممتلكه بمتعة الاقتناء لنسخة من أغان يحبها لمطربه المفضل مخزنة على أداة مادية، هو الشكل الكلاسيكي للأشياء، تماماً كالفرق بين الكتاب بوجوده المادي ووجوده الرقمي غير الملموس.
وخلاصة القول، هي أزمة حنين، لكن ربما الحنين هنا إلى حياة كاملة بكل ما تحتفظ به الحواس من تفاصيل سابقة، إنها لعبة الحواس إذاً، والشوق إلى الاتحاد في لوحة حسية خالدة، والتوق إلى بساطة الماضي والأجواء العفوية غير المتكلفة والسريان الجميل للوقت بعيداً من التحكم بتفاصيله.
اندبندنت