هل حان موعد عودة العرب بقوة إلى لبنان؟

طرح هذا السؤال أكثر من مرة في أعقاب إنجاز الاتفاق السعودي – الإيراني في بكين مطلع شهر آذار (مارس) الفائت، لا سيما أنه ترافق بسرعة قياسية مع وضع ملف التطبيع بين العرب والنظام السوري على نار حامية، تمهيداً لإعادة النظام إلى مقعده في الجامعة العربية، وعودة العلاقات الدبلوماسية إلى طبيعتها كما كانت قبل عام 2011. لماذا نطرح مسألة العودة العربية إلى لبنان في هذا الوقت بالذات؟ بكل بساطة لأنه كان يفترض أن يكون لبنان أول المستفيدين من تحسن العلاقات بين السعودية وكل من إيران وسوريا. والحال أن لبنان الذي يمثل ساحة أساسية في السياسة الإيرانية كان يتوقع أن يشهد انفراجات كبيرة في وضعه الداخلي، لا سيما أن الطرف المهيمن عليه سياسياً وأمنياً ليس سوى الذراع الإيرانية المحلية المتمثلة بـ”حزب الله”. لكن اللافت أنه فيما كانت العلاقات العربية تتحسن تدريجياً مع إيران وسوريا، لم يشهد لبنان الدولة المركبة والمجتمع المتنوع تحولات إيجابية في طريقة التعامل الإيراني مع الساحة اللبنانية. فبعد أقل من أسبوعين على إنجاز الاتفاق في العاشر من آذار – مارس في بكين برعاية صينية كان لبنان في 6 نيسان (أبريل) على موعد مع صليات صاروخية انطلقت من جنوبه نحو الأراضي الإسرائيلية، ولم يعلن أي طرف عن مسؤوليته عنها، وفهم في ما بعد أن “حركة حماس” هي الفصيل الفلسطيني الذي أطلق الصواريخ، بتنسيق وترتيب من “حزب الله” الذي يمسك بكل مفاصل الأمن والحركة في منطقة الجنوب اللبناني. كانت هذه رسالة من الساحة اللبنانية إلى إسرائيل وغير إسرائيل أن مفهوم “وحدة الساحات” الذي أرسته القيادة الإيرانية ليشمل كلاً من العراق، وسوريا، ولبنان، غزة، وصولاً إلى اليمن لا يزال قائماً، وأن ما تم الاتفاق عليه في بكين ما أثر على السياسة الإقليمية الإيرانية في البلدان التي نجحت في اخترق نسيجها الاجتماعي والسياسي والأمني.

تبع هذا الحدث قيام “حزب الله” بتنفيذ مناورة عسكرية في الجنوب اللبناني دُعي إليها عشرات الصحافيين ووسائل إعلام عالمية، وذلك من دون أن يدري مسبقاً أحد في المستوى السياسي الرسمي اللبناني أكان مدنياً أو عسكرياً. وكانت بعدها في 21 أيار – مايو المناورة العسكرية – الإعلامية للحزب المشار إليه وشعارها “ردع إسرائيل”، في وقت كان مضمونها رسالة مفادها أن لبنان هو ساحة، وأن أي تغيير في العلاقات الإقليمية بين العرب وإيران لا يشمل لبنان ولا وظيفته في السياسة الإقليمية لإيران. سبق هذا الحدث بأقل من أسبوع عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية في 19 أيار (مايو)، وحضور رئيسه القمة العربية في جدة، حيث قال في خطابه: “أما سوريا، فماضيها وحاضرها ومستقبلها العروبة، لكنها عروبة الانتماء، لا عروبة الأحضان، فالأحضان عابرة، أما الانتماء فدائم. وربما ينتقل الإنسان من حضن إلى حضن لسبب ما، لكنه لا يغير انتماءه، ومن يغيره فهو من دون انتماء في الأساس”.

وقد اعتبر هذا الموقف رداً على الموقف العربي الذي رفع شعاراً لسياسة الانفتاح على النظام “عودة سوريا إلى الحضن العربي”. وما من شك في أن كلمة الأسد في القمة فاجأت بلهجتها المناخ الانفتاحي العربي تجاه النظام. فما عناه بشار الأسد يومها كان أنه هو الذي وقف في المكان الصحيح، فيما العرب هم من كانوا في المكان الخطأ. وأياً يكن من أمر فقد شكل هذا الموقف إعلاناً صريحاً من النظام أنه لم يخطئ ولا يخطئ في خياراته، وبالتالي صار واضحاً أن إيران باقية في سوريا أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى، وأن النظام مرتبط بإيران إلى حد يستحيل مجرد التفكير في خلق مسافة بينهما لسياسة عربية حقيقية.

بالعودة إلى الساحة اللبنانية، وفيما واصلت الذراع الإيرانية فيه بتصعيد موقفها في السياسة المحلية، لا سيما في ما يتعلق بالاستحقاق الرئاسي، جرى إفشال متعمد ومتكرر لعملية انتخاب الرئيس الجديد، فطرح “الثنائي الشيعي” المؤلف من “حزب الله” و”حركة أمل” اسم أحد أركان محورها المحلي وهو رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية مرشحاً للرئاسة، من دون أن يقترن هذا الترشيح بأي محاولة للبحث بخيارات أخرى تسووية. وتدار معركة الرئاسة على قاعدة الفرض والإكراه، بمعنى إما مرشحنا أو لا رئاسة ولا دولة. وفي الأثناء سيل لا يتوقف من إشارات لاستعداد دائم لاستخدام العنف محلياً تحت شعارات وطنية بالية. فبعد مناورة “حزب الله”، مناورة عسكرية تنفذها “حركة أمل” التي يتزعمها رئيس مجلس النواب نبيه بري، يتم نشر مشاهد فيديو منها في 26 أيار-مايو، علماً أن “حركة أمل” كانت قد زعمت أنها تخلت عن سلاحها منذ اتفاق الطائف، أي قبل ثلاثة عقود ونيف. وتبع ذلك ظهور عسكري مسلح لـ”الحزب القومي السوري” تحت شعار عودة الحزب إلى مقاومة إسرائيل في الجنوب!

ما تقدم يعكس واقعاً مخالفاً لأي توجه إقليمي لمصالحات جدية وعميقة، فكل هذه المظاهر هي جزء من السياسة الإيرانية الإقليمية وتُدار من قبل “الحرس الثوري”، وبالتحديد “فيلق القدس” الذي يعتبر المؤسسة الأم لكل هذه التنظيمات والميليشيات المسلحة في لبنان والمنطقة. لكن ما يدعو إلى القلق بالنسبة إلى عودة العرب للبنان، مرده حادثة اختطاف مواطن سعودي قيل إنها عصابة طلبت فدية. لكن اللافت أنها تزامنت مع إعلان السلطات السعودية عن إعدامات بحق أفراد استهدفوا أمنها القومي، بينهم مواطنان بحرينيان ينتميان إلى خلايا تديرها إيران. ومع أنه تم تحرير المواطن السعودي بسرعة كبيرة، غير أن الرسالة السياسية أُتبعت بأخرى قبل يومين عندما عمد مواطنون مقربون من “حزب الله” من ضاحية بيروت الجنوبية على قطع طريق مطار رفيق الحريري الدولي عند أقرب نقطة من صالات الوصول والمغادرة بذريعة المطالبة بإطلاق أحد مواطنيهم من السجن في السعودية، حيث ينفذ حكماً عليه متصلاً بسلوك مخل بالأمن في الحرم المكي الشريف جرى قبل عام. هكذا قطع لبنان عن العالم لمدة ساعتين وحوصر مطار بيروت بوجود حامية المطار العسكرية التي اضطرت إلى التفاوض مع المواطنين الذين تبين أنهم محميون من “حزب الله”، ما حال دون تدخل الجيش اللبناني بفاعلية لتأمين مطار لبنان الوحيد! والطامة الكبرى عودة الحملات المنظمة من وسائل إعلام تابعة لـ”حزب الله” تهاجم فيها المملكة العربية السعودية.

كل ما تقدم عينات من واقع لا يشير إلى أنه خضع لتغيير عميق. فإيران لم تتغير، ولا أدواتها الإقليمية وميليشياتها. من هنا السؤال: هل حان وقت عودة العرب بقوة إلى لبنان؟

علي حماده- النهار العربي

مقالات ذات صلة