عملية خطف في لبنان: هل يعتبر الحزب “بكين” حادثاً عرضياً!؟

أثارت عملية خطف مواطن سعودي في لبنان في 29 مايو الماضي أسئلة بشأن رسائل الحدث السياسية سواء في ما أراد الخاطفون ومن خلفهم إرساله إذا صحّ أن للحدث مضامين سياسية، أو في ما أرسلته نهايات هذه العملية من رسائل يجوز تفسيرها في السياسة والجيوسياسة.

لا نملك المعلومات والمعطيات الحقيقية لما حدث فعلاً. لا نعرف إلا ما سرّبه الإعلام المحليّ، وبعضه ركيك لا مستند له، وما أعلنته المنابر الرسمية، لا سيما وزير الداخلية بسام مولوي وقائد الجيش جوزيف عون. وإذا ما اعتمدنا الرواية الرسمية، فهي بالنهاية صادرة عن مراجع سياسية في الدولة تُعمل مبضع السياسة وحساباتها في كل موقف يصدر عنها فتقول وتحجب ما يجوز وما لا يجوز.

ما نعرفه أن من ارتكب الجرم ينتمي إلى عصابة لطالما لاذت بالبعد العشائري وتدثّرت هي وأمثالها بـ “بيئة المقاومة” وحظيت بتغطية “الثنائي الشيعي” وظهر زعماؤها في فعاليات ومناسبات كان حزب الله وحركة أمل رعاتها. وبالتالي فلا يمكن إلا أن يكون للحدث عبقه السياسي حتى لو أن عملية الخطف ارتكبت من دون قرار سياسي.

وإذا ما كان الحدث عملا جرميا يستهدف ضحية لمبادلته بفدية مالية، فأن يكون المستهدف سعوديَّ الجنسية فذلك أمر قد لا يكون تفصيلا في خطّة الخطف المبيتة، خصوصا أن المخطوف ليس من أثرياء المملكة، بل موظف في شركة طيران، ولا يملك عادة أهالي الموظفين بسهولة مبلغ الـ 400 الف دولار الذي طالبهم به الخاطفون. وعلى هذا فكان المطلوب أن يُخطف “السعودي” لابتزاز بلاده وليس أسرته.

حتى الآن قد لا يكون في الحدث الخبيث إلا نوايا جرمية متجرّدة من أي دسم سياسي. ومع ذلك فمن يراقب همّة وسائل التواصل الاجتماعي لـ “جمهور المقاومة” الغير بعيدة عن جيوش الذباب الالكتروني الموجّه، سيلاحظ غياب أية إدانة واستنكار للجريمة، بل استهجان لهذه الحيوية التي أظهرتها النخبة السياسية والحاكمة في لبنان لاستفظاع الجريمة والتحرّك لتحرير الضحية. بالمقابل سيلاحظ ما وفّره الحدث من مناسبة لتفريغ عداء للخليج لم يلحظ تحولات العلاقة بين إيران والخليج. وتبدو هذه الأجواء أصدق وأدق مما صدر عن جهات سياسية أو عشائرية من تبرؤ رسمي أو إدانة.

وفق ذلك يمكن لأي مراقب أن يستنتج تغطية سياسية وأهلية لجريمة يرتكبها مناصرون لـ “المقاومة”. وإذا ما قرأنا بفضول الجذور العاطفية للبيئة المغردّة “المتفهّمة” للجريمة، فيسهل استنتاج أن المصالحات التي جرت بين الامارات والسعودية من جهة وإيران من جهة أخرى، وما يعد به خصوصا اتفاق بكين بين الرياض وطهران، لم تصل مفرداته إلى السلوك السياسي اليومي لـ “جمهور المقاومة” وحزب الله نفسه. حتى أن تغريدات هذا الجمهور هاجمت اللقاء الذي جمع، في السفارة السعودية في بيروت في الأول من يونيو الجاري، السيدة رباب الصدر شقيقة الأمام الراحل موسى الصدر مع السفير السعودي في لبنان وليد البخاري.

بدا أن الإفراج عن المواطن السعودي المخطوف مثّل نكسة وهزيمة للمتفهّمين والمبرًّرين لعادية الخطف في بلد لطالما يقول جُلّ كبير من أبنائه إنه مخطوف. عاش لبنان في ثمانينات القرن الماضي حقبة خطف للأجانب الغربيين اقترفتها امتدادات إيران في لبنان وكانت من عاديات “الساحة اللبنانية”. تعاملت العواصم الكبرى مع عمليات الخطف، فاعترفت بمضامينها السياسية، ودفعت مالا مرة وأفرجت عن موقوفين إيرانيين مرات، فلماذا، في بال الخاطفين، لا يحظى خطف رهينة سعودي بالحواضن السياسية القديمة؟

يُسجل لأجهزة الأمن اللبنانية أنها نجحت تكرارا في فكّ طلاسم عمليات خطف سابقة بقصد الفدية المالية وتمكنّت من احباطها وتحرير الرهائن. ويُسجل لهذه الأجهزة والجيش اللبناني هذه المرة سرعة التحرّك والعمل معا وجمع الخيوط والتحرك الفوري للتعرف على بعص الجناة والقبض على مقربين منهم والضغط الموجع للافراج عن المواطن السعودي المخطوف. غير أن السياسة وشروطها ومستجداتها ورسائلها كانت حاضرة في كل تفصيل التصق بخطّ سيّر عملية الخطف ونهاياتها.

سرّب الإعلام المحلي أن هاتف الضحية رُصد في ضاحية بيروت الجنوبية. و “الضاحية” هي العنوان السياسي الأول لحزب الله، ما طرح أسئلة بشأن من يجرؤ في هذه المنطقة على أن يطلق النار على الاتفاق السعودي الإيراني الذي رعته دولة عظمى مثل الصين وسال حبره في عاصمتها. غير أن نفيّ وزير الداخلية لـ “محطة الضاحية” في مسار الخاطفين أوقف الذهاب بعيدا في شطط من هذا النوع.

لكن قيام الجيش اللبناني بعمليات مداهمة في حيّ الشراونة عند مدخل مدينة بعلبك في البقاع وتأكيد منابر رسمية أن الخاطفين يجولون في مناطق محاذية للحدود مع سوريا، أعاد تخصيب احتمالات الدوافع السياسية طالما أن الخاطفين يتجوّلون في مناطق أمنية يسيطر عليها حزب الله ، وهي مناطق لطالما طلبت السفارات الأجنبية من موظفيها عدم ارتيادها.

في السياسة أيضا أن تتسرّب معلومات عن انتقال الخاطفين برهينتهم إلى داخل الأراضي السورية. وفي التطوّر أسئلة مكمّلة بشأن الرسائل السياسية في جغرافيا العمل الجرمي الموجّهة إلى التطوّر اللافت في تبادل وزيري خارجية سوريا والسعودية الزيارات، وصولا إلى اجتماعين استشاريين عربيين في جدة وعماّن انتهيا إلى قرار صدر عن جامعة الدول العربية بإعادة دمشق إلى مقعدها داخل الجامعة، ومن ثم حضور الرئيس السوري بشار الأسد أعمال القمّة في جدة.

ولئن لا نعرف التفاصيل الحقيقية لعملية الخطف من ألفِها إلى يائها ونكتفي بما أُعلن عبر روايات سياسية وأمنية رسمية، فإننا أيضا لا نعرف ماهية ونوعية الضغوط السياسية، لا سيما تلك الواردة من خارج الحدود، وربما من طهران تحديداً، لوضع حدّ لعبث لا يعترف بأمر واقع خرج من بكين في 10 مارس الماضي. ويحضرنا تساؤل بشأن دور الاتفاق السعودي الإيراني في إنهاء هذا “الإشكال” خلال 48 ساعة، كما تساؤل بشأن مآلات خطف “السعودي” لو لم تكن أجواء إيجابية تقوم بين الرياض وطهران منذ الاتفاق الشهير وأخرى تقوم بين الرياض ودمشق منذ اكتمال مسار التطبيع بينهما.

كشف الحدث أن حزب الله و “بيئته” ما زالا غير معنيين باتفاق بكين ولا يريدان تصديقه والاعتراف به. والأرجح أن الحزب يعتبر “بكين” حادثاً عرضياً لا يشبهه وينتظر سقوطه للعودة إلى وظائف اعتاد عليها ويجيد امتهانها في العلاقة مع السعودية.

وإذا ما كان اتفاق بكين قد كتب بقلم رصاص يحتاج إلى امتحانات صعبة، وإذا ما كان التقارب السعودي العربي مع دمشق كتب أيضا بقلم رصاص يحتاح إلى مراحل تجريب تحت مسمى “الخطوة مقابل خطوة”، فإن عملية الخطف وخرائط حكايتها الاجتماعية والجغرافية والسياسية دليل ما على أن ما تدبّره العواصم ما زال من دون مفاعيل في الضاحية والشروانة ومناطق الحدود السورية اللبنانية، حتى لو أرادت بيروت تصديقه والإيمان به.

محمد قواص- سكاي نيوز

مقالات ذات صلة