واشنطن: لبنان لن يكون ضحية التسويات… والثنائي «لم تكن فرنسا جدية بالقدر المطلوب»!
تحديد منتصف شهر حزيران من قبل رئيس المجلس النيابي نبيه بري كحد أقصى للدعوة لجلسة لانتخاب رئيس للجمهورية، أثار موجة من التساؤلات والتكهنات حيال الخلفية الحقيقية لهذا الموعد. في الواقع إن أوساطاً ديبلوماسية معنية ربطت ذلك بالضغوط والرسائل الحازمة التي وجهتها واشنطن حول ضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل شغور موقع حاكمية مصرف لبنان كي لا يدخل البلد في الفوضى العارمة، مع تلويح بعقوبات قاسية قد تحصل. وربما هذا ما استدعى من امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله إعلانه في إطلالته الاخيرة بأنه لن يحصل لا تعيين جديد ولا تمديد لرياض سلامة. وفُهم انه اراد ان يقول ضمناً انّ النائب الاول للحاكم وسيم منصوري سيتولى مهام الحاكم وانه لا خوف من الفوضى العارمة والشاملة، خصوصاً بعدما كان قد نُقل عن الرئيس بري انه يرفض تولّي منصوري مسؤولية الحاكمية وأنه اقترح عليه تقديم استقالته.
الّا انّ الاستنتاج الأهم من كل ذلك مسألتين أساسيتين:
الاولى انّ لبنان ليس منسياً في زحمة المشاكل الكبيرة والملفات الشائكة كما يعتقد البعض. والثانية ان ملف الفراغ الرئاسي وصل الى مرحلته الاخيرة وهو ينتظر ترتيبات معينة لم تجهز بعد.
وأغلب الظن انّ هذه الترتيبات تتعلق بالصورة العريضة الجاري رسمها في المنطقة والتي تطال ايران من جهة اضافة الى تطورات الملف السوري، ومن جهة اخرى الحجم الجديد لنفوذ المملكة العربية السعودية، خصوصاً ان ولي العهد الامير حمد بن سلمان يطمح لدور سعودي خلال المرحلة القادمة يتولى قيادة العالمين العربي والاسلامي. وقدّم بن سلمان نموذجاً عن هذا الدور مع انفجار الوضع في السودان، حين بادرت الرياض بدعوة الطرفين والتوسّط بينهما على اساس هذه المرجعية التي يعمل على تثبيتها.
وهذا الدور الجديد بحاجة لتفاهمات دولية كي لا تتضارب المصالح، وفي الطليعة انجاز تفاهم كامل مع واشنطن. وخلال الاجتماعات التي اجراها مستشار الامن القومي الاميركي جيك سوليغان مع القيادة السعودية جرت ملامسة هذه الرؤيا الجديدة من خلال النقاش المستفيض الذي طال الملفات الشائكة في المنطقة.
والواضح انّ ثمة متابعة ستحصل لإنجاز التفاهمات بشكل كامل وترسيم الحدود السياسية في المنطقة. ولهذا السبب يسود الاعتقاد بأنّ الازمة الرئاسية في لبنان والتي بلغت مرحلة متقدمة ما تزال بحاجة لبعض الوقت ريثما تنضج الصورة العريضة في المنطقة. فالانطباع الموجود لدى الدوائر الديبلوماسية المطلعة بأنّ السعودية لن تتعاون مجاناً لا في المنطقة ولا في لبنان، قبل انتزاع الضمانات التي تطلبها. وهذا ما يقدم تفسيراً للتباين الاميركي – السعودي في ملف سوريا.
ومن المفترض ان تحمل القمة العربية المنعقدة في 19 الجاري أجوبة اكثر وضوحاً حيال ذلك، خصوصاً وسط الكلام عن لقاء بين الرئيس السوري وولي العهد السعودي سيسبق اعمال القمة. فالسعودية تدرك انّ فلسفة اتفاقها مع ايران تقوم ضمناً على ترسيم الحدود السياسية في المنطقة بين البلدين انطلاقا من انجاز وقف الحرب في اليمن. ولذلك وسط الحديث عن تباينات في الآراء داخل دوائر السلطة في طهران، تعمد السعودية الى إخضاع اتفاق بكين لاختبار حاسم في اليمن.
وبعدما كانت السعودية قد اشتكت من انّ لديها تاريخاً غير مشجع من الاتفاقات مع طهران، تبدو الآن اكثر تفاؤلاً بتثبيت اتفاق بكين من خلال اختبار اليمن ومدى الجدية الايرانية في التطبيق والذي ترده الى الوضع الاقتصادي الصعب الناشئ عن العقوبات المفروضة. وهو ما سيفتح الباب للانتقال مع القيادة الايرانية الى ترسيم الحدود السياسية في مناطق اخرى ومن ضمنها لبنان.
وبخلاف الانطباع السائد في لبنان، فإنه وعلى الرغم من ان الازمة اللبنانية لا تشكل اولوية لدى السعوديين، إلا ان الرياض معنية ومتمسكة بلبنان ولا تريد إهماله.
كذلك وخلافاً للانطباع الشائع فإنّ واشنطن اتخذت قراراً نهائياً بأن لبنان لن يكون ثمناً لتسويات المنطقة وهو ما يعني التنبّه جيداً للحفاظ على التوازنات الداخلية الدقيقة وعدم العبث بها تحت وطأة حدّة الازمة الحاصلة بالمعادلة اللبنانية الداخلية القائمة، وان هذا الموقف جرى إبلاغه الى عدة عواصم اساسية حليفة للولايات المتحدة الاميركية مثل الرياض والقاهرة والدوحة وعمان. وانطلاقاً من هذه القراءة اصطدمت المبادرة الفرنسية بعوائق غير مرئية ما أدى الى كَربجتها، ما جعل كبار المسؤولين الفرنسيين يرددون امام زوارهم من اللبنانيين بأنّ المبادرة الفرنسية تتداعى، قبل ان يسألوا بشيء من الالحاح: هل لديكم افكار جديدة تقدمونها لنا؟
زوار العاصمة الفرنسية لمسوا انكفاء باتريك دوريل والاهم صعوبة التواصل مع رئيس الخلية الديبلوماسية في قصر الاليزيه السفير ايمانويل بون.
والمعروف انّ السفير بون هو من كان يتولى هندسة المبادرة الفرنسية حيث يعمل دوريل تحت اشرافه ووفق توجيهاته.
في الواقع، إنّ بون كان قد عمل سفيراً لبلاده في بيروت بين عامي 2015 و2017. ويومها كانت الازمة الرئاسية ايضا مستفحلة. وعمل بون يومها على تظهير خيار سليمان فرنجية ما أدى لاحقاً الى نجاح على المستوى الدولي وايضاً السعودي، وهو ما تُوّج بالاتصال الهاتفي الشهير من قبل الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند يومها بفرنجية ما فُسّر بأنه مباركة دولية له. لكنّ «حزب الله» الذي كان يدعم وصول ميشال عون أجهَض الخطة.
وللمفارقة، فإن ايمانويل بون وبحكم موقعه في الايليزيه الآن الى جانب ماكرون تولّى استعادة تجربته الرئاسية اللبنانية بالتفاهم الكامل مع «حزب الله» هذه المرة، لكنّ «البلوك» جاء من مكان آخر.
وتعترف الاوساط الفرنسية في معرض تقييمها للفشل الذي حصل بأنّ باريس اخطأت في تقييم الموقفين الاميركي والسعودي، وكذلك فهي اعتبرت انّ الثنائي الشيعي كان محدود الفعالية في القدرة على فتح المسارات المطلوبة أغلب الظن انها كانت تعدّ نفسها «بأرنب» من الارانب التي اشتهر بها الرئيس نبيه بري.
ولكن في المقابل، إنّ الثنائي الشيعي أبدى خيبته من باريس: «لم تكن فرنسا جدية بالقدر المطلوب».
أياً تكن الاجابة الصحيحة فإن الادارة الفرنسية بادرت الى التحرك لإعادة اصلاح الفجوات التي ظهرت قبل ان تكرّس خسارة كاملة في آخر مواطئ قدمها في الشرق الاوسط. وفي ترجمة لاعتبارها بأنها لا تريد ان تبعد مسيحيي لبنان عنها، بادرَ ماكرون الى إرسال دعوة خطية للبطريرك الماروني لزيارة باريس في الثاني من حزيران المقبل والاجتماع به. الأرجح انّ ماكرون سيحيط ضيفه بالحفاوة والتكريم وسيتمسّك امامه بالحفاظ على العلاقة التاريخية بين فرنسا والموارنة، وسيعمل للوقوف على تقييمه ورأيه وافكاره. ولا تخفي الاوساط الفرنسية هنا بأنّ ملف قائد الجيش العماد جوزف عون بات موجوداً على طاولة صنّاع القرار في باريس أسوة بما هو حاصل في واشنطن والرياض والدوحة والقاهرة. ولا يتردد المسؤولون الفرنسيون في الاعلان عن ذلك ويُرفقون كلامهم بالاشارة الى انّ ملفه نظيف وايجابي.
لكن الاشارة الاوضح او ربما المؤشر الفعلي للاستحقاق الرئاسي اللبناني سيكون مع الاعلان عن الاجتماع الخماسي الدولي الثاني حول لبنان، والذي سيحصل على مستوى وزراء الخارجية عندما تنضج الظروف، خصوصا انّ الاجتماع الخماسي الاول لم يكن ناجحاً والاحداث التي تلته قدّمت التفسيرات المطلوبة.
وسيسبق ذلك مقررات جامعة الدول العربية ونتائج الاجتماع السعودي – السوري وخصوصاً الزيارة الثالثة للوفد القطري. مع الاشارة الى تفصيل مهم وهو ان المسؤول عن الوفد القطري والذي قيل انه أمني، كان قد تولى ترتيب كافة التفاصيل التي أدت الى إنجاح اتفاق الدوحة عام 2008. ما يعني انه مُلمّ الى حد بعيد بتعقيدات السياسة اللبنانية وزواريبها الضيقة وتداخلاتها مع الخيوط الاقليمية. ولهذا ربما قد يعود في جولته الجديدة بأفكار عملية وتحت مظلة التفاهمات الدولية والاقليمية.
جوني منيّر- الجمهورية