هل ينتهي ماكرون في السجن؟
ماكرون: من الإليزيه.. إلى السجن؟
تعيش فرنسا اليوم نزاعاً مثلّثاً وشرساً بين جماعات السلطة الجديدة البراغماتية، التي يمثّلها الرئيس إيمانويل ماكرون، والمزيج من كلّ الأفكار الاستراتيجية والتنظيمية السابقة والقاعدة التقليدية للمؤسّسات السياسية في الجمهورية الخامسة وهيكلها. وتوجّه مجموعات “الاشتراكية الطوباوية” التي تضمّ كلّ الفئات النقابية والعمّالية والاتحادية اتّهاماً لكليهما بتدمير الجمهورية الخامسة، التي قامت في الأصل، من وجهة نظرهم، على أكتافهم، وكانوا سبباً في ارتقائها ونجاحها ونشر قيمها، وفي توسّع فرنسا من خلالها.
تتخطّى هذه المعركة في عمقها مسألة قانون التقاعد، الذي رفع سنّه ماكرون من 62 إلى 64 وأغضب ملايين الفرنسيين الراغبين في تقاعد مبكّر ومدفوع.
هو في العمق نزاع بالوكالة على شكل فرنسا المستقبلية، وطبيعة مؤسّساتها ونظمها وأعرافها وتقاليدها. بل هي منافسة مصيرية بين مختلف طبقات المجتمع الفرنسي، الذي يقدّس الحقوق والواجبات ويكره النخب الاحتكارية.
أخطأ ماكرون في انتهاجه الاستثمار العبثي بالسياسة الخارجية من لبنان إلى أفريقيا مروراً بتصعيده من الصين ضدّ أميركا، وموقفه في الحرب الروسية على أوكرانيا… وها هو يريد تعويض خسائره بأيّ طريقة كانت، سواء بالسياسة الداخلية أو الخارجية، بعد فشله في كلّ ملفّاته الدولية وقصوره في المحلّية منها. يريد أن يُحدث توازناً. أوقع نفسه بالفخّ، وفتح على نفسه مزيداً من التحدّيات بين اليمين واليسار والاشتراكيين والجمهوريين والمستقلّين. على الرغم من نجاحه بتمرير هذا القانون وصحوته المؤسساتية، إلا أنّ عواقبه سوف تستمرّ وستُتعب عهده.
فتح نزاعاً جديداً بين الأفكار اليسارية والاشتراكية وجماعات اليمين التي يلتقي مع أغلبها على كثير من القناعات الاقتصادية والاجتماعية، قد يكون أبرزها قوانين الهجرة ومكافحة الوجود غير الشرعي. فمعركة قانون تعديل سنّ التقاعد تمهّد للمرحلة الجديدة المقبلة عليها فرنسا في المستقبل، بعد انتهاء العصر الماكروني، والتي ستحمل وترتدي بعض المظاهر اليمينية.
التصعيد في الشارع بوجه ماكرون
لهذه الأسباب حلّ الأوّل من أيّار، عيد العمال، وسط جوّ عصبيّ أكثر من أيّ وقت مضى. فهو جاء في سياق ترهّل المجتمع الفرنسي وخوفه من شيخوخة اليد العاملة. لهذا شُحنت النفوس بالفوضى السياسية والامتعاض العامّ شعبياً. حصل ذلك بعد تمرير حكومة إليزابيت بورن، من خلال استخدامها صلاحية القوّة التشريعية التنفيذية غير المحبّذة برلمانياً، قانون إصلاح وتعديل سنّ التقاعد.
نجح الرئيس في تمرير القانون بالسياسة والقانون حكومياً، وضمنه دستورياً بعد موافقة المجلس الدستوري. ارتاح عند نيله الضوء الأخضر من هيئة الحكماء العليا قضائياً ودستورياً في المادّة السابعة من هذا القانون، الأهمّ بين موادّه، والتي تنصّ على رفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، وهو الأقلّ في أوروبا، بحلول 2030. لكنّه وافق على موادّ أخرى يتضمّنها القانون الجديد مع بعض التحفّظات، ورفض ستّ موادّ أخرى، من بينها ما يتعلّق بعقد العمل الخاصّ بكبار السنّ.
لكن لم ينجح إلى الآن في تمرير القانون شعبياً ونقابياً وحتى مؤسّساتياً، ويعترف بعدم شعبية قانون التقاعد الجديد. يصرّ على ضرورته من أجل استمرار إقرار الموازنة العامة مستقبلاً، وضمان عدم إفلاس المنظومة، وهنا مكمن الخلاف.
يواجه ماكرون مشاكل مزدوجة وثلاثية الأبعاد:
1- تصاعد الخلافات داخل إدارته، والتباينات والانسحابات ضمن فريقه، مع انخفاض في مستوى شعبيّته.
2- فقد الثقة في البيئة الحاضنة له، ويواجه تزايداً في الانقسام المجتمعي.
3- ترتفع نقمة العمّال والنقابيين الفرنسيين عليه، ويؤلّبون الأجانب وأصحاب الإقامات غير الشرعية ضدّه.
ماكرون العنيد
تتمسّك الإدارة الفرنسية الحاكمة بموقفها وتصرّ عليه. يعتزم الرئيس الفرنسي المضيّ قدماً في خططه، حتى لو تعرّض عهده لمزيد من الضعف والشلل، إذ يعتبر أنّ هذا الإصلاح ضروري لضمان استمرارية الأنظمة التقاعدية في البلاد. ومن جانبها، تصرّ النقابات على مبدئها، وتحفّز على زيادة الضغط النقابي ضدّ هذا الإصلاح إلى حين التراجع عنه.
خافت السلطة الفرنسية من نجاح القوى النقابية في كسب ودّ عدد كبير من المهاجرين غير الشرعيين، المقيمين أساساً بطريقة غير قانونية، من خلال التضامن معهم ومعارضة قانون الهجرة، الذي اقترحه جيرالد دارمانان، وعملية “وامبوسو”، في تلبية لتجمّع “متّحدون ضدّ الهجرة غير الصالحة 2023″، الذي يصف قانون الهجرة بأنّه “عنصري وهدفه تجريم الوافدين، وتنظيم أعمال المقيمين بشكل غير قانوني، مع رفع نسب عمليات الترحيل”. لذا تعاملت السلطات مع الموضوع بطريقة سلسة وحذرة جداً…
لكنّ الشارع مفتوح. وغالباً كان الرؤساء في فرنسا يأتون على ظهور الخيول البيضاء، ويذهبون من الإليزيه.. إلى السجن.
أساس ميديا