لبنان في مهب المجهول… مُقيّد بـ”الانتصار الإيراني” في سوريا!

لبنان مُقيّد بـ”الانتصار الإيراني” في سوريا… هل يخرق الإيقاع “الفرنسي – السّعودي” فراغ الرّئاسة؟

تعكس التطورات المرتبطة بالاستحقاقات اللبنانية عجزاً داخلياً عن التوصل إلى تسوية أو حل للملفات العالقة. فالثابت في المعادلة الراهنة أن الانقسامات اللبنانية على حالها، يفاقمها الغرق في الرهانات المتناقضة على مواقف دولية تصب في مصلحة كل فريق، من دون تقديم تنازلات للتفاهم على انتخاب رئيس جديد. يستقوي محور الممانعة بالتغيرات التي تحدث في المنطقة، وأبرزها الانفتاح العربي على النظام السوري، فيقدم “حزب الله” موقفه بطريقة مختلفة كما أخرجه رئيس كتلة نوابه محمد رعد حول الاستحقاق الرئاسي، من دون أن يتنازل قيد أنملة عن تبني ترشيح سليمان فرنجية. فيما قوى المعارضة أو خصوم الحزب يراهنون على التناقضات الخارجية وتباعد الرؤى الدولية حول مرشح الممانعة.

المواقف الخارجية لم تعط إشارة حاسمة إلى نضوج الحل اللبناني، وإن كان هناك كلام عن اتصالات لبلورة تسوية قبل تموز (يوليو) المقبل، أي قبل انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لكن ذلك يستوجب حسم العديد من الأمور عربياً وإقليمياً، ومنها عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وتبيان مصير التقارب السوري – التركي بعد الانتخابات التركية. والأهم التداعيات التي سيتركها الاتفاق السعودي – الإيراني في المنطقة ومنها لبنان. وقد جاءت زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي لسوريا وكلامه عن الانتصار التاريخي لمحور المقاومة، لتشير إلى التركيز الإيراني على سوريا ومن ضمنه لبنان في مسار التطبيع القائم في المنطقة، وقبله زيارة وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان لبيروت ودمشق، لتترك انطباعات بأن إيران لا تقدم تنازلات في لبنان بعد اتفاق بكين، لا بل إنها تعتبره في صلب أجندتها في المنطقة. وينعكس هذا الأمر على الاستحقاق الرئاسي، إذ لا مؤشرات على تراجع الممانعة عن خيارها، علماً أن عبد اللهيان ترك هذا الملف بتصرف “حزب الله”، لكنه استثمار إضافي لتحسين الشروط في أي تسوية محتملة وفرض الرئيس الذي يريدونه.

المؤشرات السياسية لا تغيّر النظرة الإيرانية إلى الساحة اللبنانية لجهة توظيفها ضمن استراتيجيتها في المنطقة، وإن كانت الأمور اليوم مفتوحة على التسويات إقليمياً، إذ تسعى طهران عبر زيارة رئيسي إلى تأكيد النفوذ الإيراني في المنطقة، وفي جولة عبد اللهيان إلى استثمار التقدم في العلاقات السعودية – الإيرانية وتأدية دور مختلف، خصوصاً في سوريا ولبنان تحديداً.

لا يعني ترسيخ النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان خوض حرب مع إسرائيل، فليس مهماً لمحور المقاومة الرد على الضربات الإسرائيلية المستمرة على سوريا، وهي استهدفت مواقع في مطار حلب الدولي تزامناً مع زيارة رئيسي، لكن المهم هو الهيمنة والتحكم بالقرار في هذين البلدين. التركيز الإيراني هو على الاتفاق مع السعودية، فإذا كانت الملفات تسلك إيجاباً وفق بنود الاتفاق في اليمن، فلا بأس من تحسين الشروط في سوريا ولبنان تحديداً، وهو ما كان واضحاً قي إبلاغ عبد اللهيان الأمين العام لـ”حزب الله” خلال لقائهما في بيروت الثقة الإيرانية بأدائه في الملفات كافة، خصوصاً ملف الرئاسة. والأهم عدم الذهاب إلى أي تصعيد ضد السعودية أو دول الخليج.

من هذه الأجواء يستمر “حزب الله” بدعم فرنجية كخيار وحيد، ويبدو أنه سيخوض معركته إلى النهاية، ما دامت المعادلة تشير إلى انتصار محور المقاومة الذي أكده رئيسي من دمشق، ولا مجال للتراجع مع الرهان على تطورات في المواقف الداخلية والخارجية بناءً على تطور العلاقات السعودية – الإيرانية، والسعودية – السورية وفق تفاهمات جديدة. لذا لا تعني دعوة الحزب للتفاهم مقدمة للتخلي عن سليمان فرنجية، لا بل هي مؤشر للتمسك به أكثر انطلاقاً من رهانات خارجية. فالتنازل يبدأ من التخلي عن فرض الشروط المسبقة، وهو بهذه الحالة لا يتطابق مع الحديث عن التفاهم، إلا باعتباره رسالة بأن إنجاز الاستحقاق الرئاسي والتسوية لا يمران إلا من بوابة “حزب الله”. يعكس ذلك أيضاً رهاناً على تغيير في الموقف السعودي انطلاقاً من التطورات الإقليمية ومفاعيل الاتفاق مع إيران، خصوصاً بعد الضخ المتواتر من جهات داخلية عن أن الرياض بدأت تتعامل مع ترشيح فرنجية كأمر واقع. لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يروّج حديث عن أن فرنسا شارفت على انتزاع موافقة سعودية عليه، وهو ما يزيد من الضغوط على القوى الرافضة لترشيح فرنجية كمرشح وحيد للرئاسة.

وإذا كان الخارج بات صاحب الكلمة الفصل في الملف الرئاسي، فإنه لا يمكن فصل تطورات الأوضاع في المنطقة عن لبنان. لا يعني ذلك أن الاتفاق السعودي – الإيراني قد خصص قسماً عن لبنان، لكن يبدو أن هناك اتفاقاً بينهما يتعلق ببعض الملفات السورية المتصلة بلبنان، منها ضبط الوضع الأمني، والحدود ومنع تهريب المخدرات، وإعادة التموضع، إضافة إلى إعادة إعمار مناطق متعددة لتأمين عودة لاجئين إليها، وهو أمر يحتاج أيضاً إلى متابعة وبحث ما دام هناك ملفات معلقة. وفي هذا السياق تتصرف إيران ومعها “حزب الله” على أنهما الطرف المنتصر في سوريا، وهذا أمر غير مخفي وظهر في كلام رئيسي في دمشق، وبالتالي لن يتخليا عن مكتسباتهما أو تقديم تنازلات فيها، بل البحث يبدأ من خط النفوذ والهيمنة والاستثمار في وجودهما في المنطقة.

تنعكس الأجواء المستجدة في سوريا على ملف الاستحقاقات اللبنانية، فمع إصرار محور المقاومة على ترشيح فرنجية، تعجز الأطراف المسيحية عن الاتفاق على مرشح آخر أو بديل. يتصل الأمر بالموقف السعودي من استحقاق الرئاسة، فالسعودية لا تزال على موقفها من مواصفات الرئيس، وهي لم تدخل في تفاصيل هذا الملف ولم تقترح أسماء محددة ولا هي بصدد دعم أي مرشح. وقد أبلغت باريس موقفها بوضوح، فإذا كانت قادرة على إيصال مرشح معين بأكثرية لبنانية، فلن تتدخل في الأمر، وهي لن تخرج عن المواصفات التي أعلنتها للاستحقاق. وهذه السياسة السعودية بدت واضحة في تحرك السفير السعودي وليد البخاري الأخير لبنانياً، وقد نُقل عنه بعد زيارته البطريرك الماروني بشارة الراعي أن المملكة تعتبر أن الاستحقاق الرئاسي شأن سياسي ‏داخلي لبناني بامتياز، وقرار الخيارات السياسية يؤخذ ويصنع في بيروت، والمملكة ضد ‏الإملاءات في هذا الموضوع من أي جهة كانت، مؤكداً أن الرياض ليس لديها أي اعتراض على أي مرشح رئاسي يحظى بثقة اللبنانيين ‏أنفسهم، فأي رئيس ينتخبه المجلس النيابي ترحب به المملكة الحريصة على التعاون ودعم ‏لبنان. لكن الأمر المهم في هذه المطالعة أن موقف السعودية رئاسياً لا يمكن أن يكون منفرداً، وهو الأمر ذاته لدى إيران صاحبة النفوذ، وأيضاً لدى فرنسا. الجميع لا يمكنهم تجاوز الموقف الأميركي الحاسم في هذا الشأن. وقد لوحط تحرك أميركي مستجد في الملف اللبناني الداخلي، ظهر في جولة السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا ولقاءاتها مع غالبية المسؤولين، وهي حضّت في تصريحاتها على ضرورة إنجاز الانتخابات الرئاسية سريعاً. وينسجم هذا التحرك مع البيان الصادر عن الخارجية الأميركية حول ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية قادر على جمع اللبنانيين وتنفيذ الإصلاحات، ويكون متحرراً من الفساد.

الحركة الفرنسية أيضاً مستمرة لإنجاز الاستحقاق، فباريس تواصل محاولاتها على الخط السعودي، وبالنسبة إليها، لم تصل الأمور إلى الفشل، وهي لا تزال تراهن على فتح نافذة مع السعودية لإقناعها بخيار فرنجية، إذ إن باريس لم تتخلّ نهائياً عن مبادرتها رغم بيان خارجيتها الأخير. وتُصر على تحقيق إنجاز لبناني يكرّس وضعها في المنطقة. فهي تواصل مساعيها لإقناع السعودية بمقايضتها، معتبرة أن لا مجال لإخراج لبنان من أزمته إلا بخيار فرنجية. وتستند المبادرة الفرنسية إلى تداعيات للاتفاق السعودي – الإيراني، وإن كان لم يتناول الملف اللبناني أو أقله لم يكن من الأولويات، إذ إن لبنان يحتاج إلى بحث منفصل، إن كان إيرانياً – سعودياً أو فرنسياً – سعودياً، وهو ما تعوّل عليه باريس في هذا الشأن. لكن الجديد الذي تطرحه فرنسا هو أن عدم الاتفاق لبنانياً، وخصوصاً مسيحياً، على مرشح بالمواصفات التي تتحدث عنها السعودية، سيقود في النهاية إلى الإصرار على فرنجية، وإقناع القوى الخارجية به.

صحيح أن الوضع في لبنان لم يعد يحتمل المزيد من الانتظار، لكن الصيغة التي يحكى عنها بإيصال مرشح الممانعة كخيار وحيد، يكرّس النفوذ وقدرة محور الممانعة على استثمار الوقت بالتعطيل والفراغ لفرض ما يريد، وإن كان حسم هذا الموضوع سابقاً لأوانه، لكن رهن لبنان للأمر الواقع يضعه في مهب المجهول…

ابراهيم حيدر- النهار العربي

مقالات ذات صلة