من علّم «الحكام العرب» تدخين السجائر؟
يلاحظ في السنوات الأخيرة موجة من الكتابات العربية التي أخذت تولي لتاريخ الأشياء والطعام قيمة وأهمية كبيرة، وعلى الرغم من أن هذه الكتابات لم تتمكن أحيانا من الانفكاك من عالم السياسي، إلا أنها في المقابل سلطت الضوء على صورة أخرى للزعماء السياسيين العرب ويومياتهم وطقوسهم في المأكل والمشرب وغيرها من الأمور.
ويعد كتاب الروائي والحكواتي المصري الشيق عمر طاهر «من علم عبد الناصر شرب السجائر» نمطا أدبيا مميزا، يذكرنا بكتابات الروائي والكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو، وكتابه الأثير «أبناء الأيام»، الذي ترجمه الراحل صالح علماني، ليؤكد طاهر باقتدار أحقية الكاتب بكسر القوالب التقليدية المفروضة على الروائي، أو ما يفترض أن تكون عليه شروط الكتابة التاريخية والأدبية التي تفرضها «شرطة الآداب»، ويجمع لنا العديد من الحكايات والوقائع من التاريخ قديمه وحديثه، لا تخلو من «الإمتاع والمؤانسة».
ينقل لنا عمر طاهر كلام ناصر عن صديق عمره المشير عبد الحكيم عامر «إذا أردت أن أحل أي معضلة أتكلم مع عامر حتى تتبلور أفكاري، وعامر هو الوحيد الذي يمكن أن يتقبل عني الرصاص، وهو اللي علّمني شرب السجاير».
عن السيجار والسيجارة ورجال السلطة..
بين التدخين والسلطة علاقة مديدة في منطقتنا، فلا يذكر السيجار، دون ذكر «المهيب الركن» صدام حسين الذي شكّل السيجار جزءا من صورته الكارزماتية، وكذا فعل الرئيس هواري بومدين الذي ظهر حاملا السيجار كجزء من ترسيخ صورته كزعيم ثوري، ولعل أحد أشهر مدخني السيجار «الأستاذ» محمد حسنين هيكل، الذي يصح فيه القول إنه من علّم حسني مبارك تدخين السيجار، ففي اللقاء الأول الذي جمعهما بعد وفاة الرئيس أنور السادات، عرض مبارك تدخين السيجار على هيكل، معلقا أنه يعرف أن «الأستاذ» مدخن معروف للسيجار، لكن سيجار مبارك لم يعجب الذواق هيكل، وعبّر هيكل عن ذلك باحترام، وأخبر الرئيس أن هذا السيجار «مقبول»، وأقنع الرئيس مبارك بأن يحضر له نوعا من السيجار كان قد تركه في سيارته، وهو ما حصل، وبعد أن تذوق أبو علاء سيجار هيكل أقر بأنه ألذ فعلا، وطلب منه أن يملي على أحد ضباط القصر أسماء أفضل أنواع السيجار لكي يجربها، وهذا ما حصل فعلا، جاء الضابط وكتب ما يمليه هيكل من أنواع السيجار، وما كان من الراحل «صاحب أول ضربة جوية» إلا أن ضحك وعلق قائلا «يا أخي عاوزين نتعلم العز».
وفي العودة إلى السيجارة، كان الرئيس عبد الناصر مدخنا شرها يدخن 60 سيجارة في اليوم، وكان ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال، مدخنا وكثيرا ما ظهر حاملا سيجارته، ولعل واحدة من أشهر الصور هي تلك التي جمعته مع ناصر الذي كان يدخن سيجارته ويشعل سيجارة الملك حسين، وتنقل لنا الأميرة عالية بنت الحسين، أن والدها كان يدخن مباشرة حين وقوع أي أزمة، وأنه حاول ترك الدخان مرارا، لكنه توصل إلى نتيجة مفادها أنه حين يترك الدخان تحصل مشاكل وأزمات وقرر ألا يترك الدخان، ولا أعلم إن ساهم ناصر والحسين في الدعاية لتدخين السجائر في مصر والأردن، لكن بالتأكيد كان للسيجارة بين أصابعهم جاذبية تفوق إعلانات شركات التبغ.
ما بين نجيب محفوظ وبرلنتي عبد الحميد!
يحكى أن نجيب محفوظ وبينما كان جالسا رفقة أصدقائه يستذكرون زلزال 1992 في مصر، سألوه عن إحساسه في ذلك الوقت، فأجاب بروحه المرحة «كنت جالسا في الصالة عندما وقع الزلزال، شعرت بقوته، ونظرت إلى السقف منتظرا سقوطه، وسقوط برلنتي عبد الحميد في حجري»، وهذه الحكاية ذكرها الروائي الراحل جمال الغيطاني في كتابه «المجالس المحفوظية». أما برلنتي عبدالحميد فهي «نفيسة» وهو اسمها الحقيقي الذي ولدت به عام 1935 في حي السيدة زينب في القاهرة، قبل أن تتحول إلى «ملكة الإغراء» في السينما المصرية، وصولا إلى أن أصبحت زوجة المشير عبدالحكيم عامر، أحد أهم شخصيات الحقبة الناصرية، وقائد القوات المسلحة المصرية ووزير الحربية، فقد كانت حقيقة تسكن في الطابق العلوي في العمارة ذاتها التي يسكنها صاحب نوبل في حي العجوزة.
وبالعودة إلى ما قبل الزلزال بنحو 30 عاما، تحكي لنا برلنتي في مذكراتها «المشير وأنا»، أن المخابرات بعد أن طلبت منها سابقا «المساهمة في حماية الوطن»، جاءها اتصال من شخص طلب زيارتها وكرر عليها كلامه السابق عن «خدمة الوطن وحماية الثورة»، تبيّن أن الضيف ما هو صلاح نصر مدير المخابرات العامة، الذي قال لبرلنتي إن هذه الشقة صغيرة، وإنه سيقوم بنقلها إلى شقة مناسبة لعملها، وكانت الشقة التي يقصدها صلاح نصر هي شقة العجوزة، لمراقبة محفوظ وقطع حياته الهادئة، وكل ذلك في سبيل «حب الوطن»!
بين دفات الكتاب يورد الكاتب حكاية عن الجاسوسة هبة سليم، المصرية التي نجح جهاز «الموساد» في تجنيدها خلال دراستها في فرنسا، فبعد كشفها والقبض عليها كانت هبة تقضي وقتها في السجن للتزيُّن ولبس الباروكات وتعطير جسدها، وكأنها موقنة بأن تدخلا إسرائيليا سيؤدي للإفراج عنها، وهو ما لم يحصل، حيث كان مصيرها الإعدام. وهو ما يذكرنا بحكاية الجاسوس الأشهر في سوريا إيلي كوهين، المولود في الإسكندرية لعائلة حلبية يهودية مهاجرة، الذي تمت أسطرته وتضخيم دوره، والحقيقة أن كوهين أحد الإخفاقات الكبيرة للموساد، لكن جهاز المخابرات الإسرائيلي كما هو معلوم يفرج كل فترة عن بعض الحكايات الاستخباراتية، ويعيد صوغها وتضخيمها وأسطرتها، ويقذفها في عقل المتابع العربي والغربي، إما عبر الروايات والكتب، أو ما يجد طريقه إلى شركات الإنتاج التي تقدمه على شكل مسلسلات أو أفلام تحدثنا عن «الجواسيس الخارقين» و»الجيش الذي لا يهزم». الحقيقة حول كوهين بسيطة، فإن من المتفق عليه أن الجاسوس يزرع لفترات داخل المجتمعات، وعليه أن يقدم معلومات ذات قيمة، وألا يكشف، وبالتأكيد ألا يقبض عليه، أما كوهين في سوريا فقد عمل منذ عام 1962 حتى أوائل 1965، أي مدة 3 سنوات فقط، وحسبما أوضح الكاتب والباحث صقر أبو فخر، فإن مصادر كوهين كانت ضعيفة، وفي النهاية كان مصيره الإعدام شنقا في ساحة المرجة، هذه حكاية كوهين باختصار شديد، أما إخفاقات الموساد فكثيرة جدا، لكن للأسف، فإن الخصومات السياسية في العالم العربي، جعلت كثيرا من الإعلاميين دون وعي – أحيانا بوعي – ينقلون رواية «الموساد» دون تدقيق وتمحيص، بهدف إسقاط وتشويه خصومهم.
يروي الكتاب العديد من الأحداث المفصلية والممتعة من الذاكرة المصرية، ويربط قديمها وحديثها بقلم رشيق، يحثك على التوقف عن القراءة، والبحث في الأسماء والحوادث التي ذكرت، وستجد نفسك هائما في شوارع مصر الملكية، مرة كباشا وأخرى كفلاح، وتارة مناضلا مع الضباط الأحرار، وأخرى كسجين في معتقلاتهم، متنقلا بين أغاني أم كلثوم وأحمد عدوية، وألحان عبد الوهاب وبليغ حمدي، وقد يداعب الكتاب خيالك أكثر، فتتمنى أن يخط قلمك تلك الحكايات عن بلدك، أو تنتظر كاتبا يحكي لك من علّم الحكام العرب الآخرين تدخين السجائر؟
القدس العربي