“جلد” جويس عقيقي… والسبب الحجاب!

لا يمكن المرور على حدث ارتداء الصحافيات اللبنانيات للحجاب في المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان في السفارة الايرانية يوم الجمعة، من دون فهم أبعاده. اذ أن رمزية هذا الفعل تحمل معاني أبعد من الحجاب نفسه. واذا كانت مهمة الصحافي بشكل عام أن يكون ناقلاً للخبر، فإنّه في مثل هذه المواقف يتحول الى الخبر نفسه.

منذ مساء الجمعة، تحولت صورة مراسلة “أم تي في” جويس عقيقي بالحجاب الى الخبر، بسبب ارتدائه خلال تغطية المؤتمر الصحافي في مبنى السفارة، وصولاً الى جلدها، رغم أن قضية ارتداء الحجاب أثناء التغطيات الاعلامية ليست أمراً جديداً، فالأمر بقي محط جدال حتى اللحظة، بين مؤيد يرى أن الحصول على المعلومات يضاهي بقيمته الاعلامية الموقف الذي سيتخذه الصحافي، ورأي آخر يرى أن الحرية هي أساس هذه المهنة، وبالتالي التنازل عنها هو بمثابة الرضوخ للسلطة.

 

 

وظهرت في الأعوام الأخيرة، إعلاميات بالحجاب أثناء مقابلة رجال الدين، ويدل هذا التصرف على هيمنة القيم المجتمعية على حرية الصحافيات اللواتي يفضلن الاذعان لسلطة رجل الدين، بغية تفادي الانتقادات التي قد تلحق بهن بحال رفضن، أو منعهن من اجراء المقابلات.

وكانت حركة ارتداء الصحافيات اللبنانيات للحجاب أثناء تأدية عملهن الاعلامي قد أثارت بلبلة في وسائل التواصل الاجتماعي. ففي الوقت الذي تتعرض فيه نساء ايران الى أقصى درجات العنف والاضطهاد بفعل مطالبتهن بالحصول على “حرية عدم ارتداء الحجاب”، لم تناقش الصحافيات اللبنانيات في أمر الحجاب، وحضرن كما ارتأت السلطة الايرانية. اذ أن السلطة، بالنسبة للصحافيين في العادة، هي مصدر للمعلومات، قمة الخبر، وأكبر من أي نشاط حقوقي.

يقتضي البروتوكل المتعارف عليه، (هو ليس أمراً مكتوباً في نص أو ميثاق إعلامي)، أن يلتزم الصحافي بقانون الدول التي يعمل على أراضيها، وفي هذه الحالة يشكل حرم السفارة الايرانية أرضاً تابعة للجمهورية الاسلامية الايرانيّة التي ينطلق دستورها من وحي الشريعة الاسلامية، وبالتالي فإنّ ارتداء الحجاب ضمن حرمها هو شرط من شروط الدخول، تماماً كما الاراضي الايرانية. غير أن حضور صحافيين/ات معارضين لتغطية هذا المؤتمر في هذا التوقيت بالذات، يشكل علامة فارقة تدل على تحول في دينامية العلاقة مع إيران.

ثمة انفتاح متبادل بين السفارة التي دعت جميع الصحافيين بغض النظر عن مواقفهم، والصحافيين الذين وافقوا على شروطها، يقدم رسالة سياسية مفادها أن التغيير في “سياسة الرشق والاتهام”، مجمدة مقابل التحول الى “سياسة الانفتاح والتبادل” الذي لا تظهر حتى اللحظة مؤشرات استدامته.

وبالاستناد الى خلفية موقف “أم تي في” السياسي المعارض لايران، وتغطياتها المكثفة في السابق لحراك الايرانيات بعد مقتل مهسا أميني، طُرِحت تساؤلات من قبيل: هل كان بالامكان لقناة “الـ أم تي في” أن تعفي نفسها من هذه البلبة، وترسل صحافياً شاباً مثلاً؟

ينطوي هذا الامر على نقاش من نوع آخر، كونه، في المبدأ، يشكل تمييزاً بحق الصحافيات الإناث، الا أنّه في المبتغى السياسي المرجو، يقدم موقفاً يتناسب مع الأجندة السياسية للقناة، ولا يضعها في موضع الهجوم من قبل جمهورها، أو على الأقل تستطيع أن تمتلك من خلاله الارادة لتظهر على أنّها مدافعة عن بعض الثوابت، اذا كان “العداء” لإيران من الثوابت السياسيّة أصلاً في الفترة الاخيرة.

خيار قبول أو رفض الحجاب، هو قرار شخصي يتخذه الصحافي، غير أنّ السياق السياسي للأحداث لا يزال العامل الأبرز في تحديد الخيار النهائي. في أيلول/سبتمبر الفائت، وفي أوج انطلاقة التظاهرات في إيران، كان من المفترض أن تجري مراسلة “سي ان ان”، كريستيا أمانابور، مقابلة مع الرئيس الايراني إبراهيم رئيسي في نيويورك خلال حضوره قمة للأمم المتحدة، غير أن رئيسي تمنع عن حضور المقابلة بعد أن رفضت أمانابور ارتداء الحجاب معتبرة أن قانون الولايات المتحدة لا يملي عليها ذلك.

وفي وقت سابق، أجرت الصحافية ليسي ستال، في برنامج “60 دقيقة” الشهير، مقابلة مع الرئيس الايراني في مقر الرئاسة في طهران وهي ترتدي الحجاب.

تباينت المواقف اتجاه هذين الموقفين. اذ أن ستال لم تنجُ من الاتهامات بأنّها لا تأبه بمشاعر النساء الايرانيات. في حين، رأى بعض العاملين في المجال الاعلامي أن أمانابور أخطأت حين اختارت حريتها الشخصية على مقابلة مهمة، وكان من الأجدر أن تضع فيها الرئيس أمام المساءلة، وتستجوبه للحصول على معلومات يحق للشعب الايراني معرفتها.

لا يوجد جواب حاسم حول صوابية اتخاذ القرار في مثل هذا الشأن، الا في ما يخص “التناسق” في الممارسة من دون اللجوء مراراً الى حيلة المكان. فقيام المراسلة الأميركية، كلاريسا وارد، بارتداء الحجاب لتغطية الحدث الأفغاني ابان انسحاب الجيش الأميركي وسيطرة “طالبان” على البلاد، في الوقت الذي تعاني فيها النساء الأفغانيات أشد أنوع الاضطهاد، بيّن نوعاً من تضامن الصحافية الأجنبيّة معهن، وأظهر مدى الحاجة لضمان الأمان للصحافيّة أثناء ممارستها العمل من خلال التماهي الثقافي، لكنه في الوقت نفسه عرّى الازدواجية في التعاطي مع حقوق الانسان. اذ أنّ أهمية الحدث السياسي، والتحول في النظام الحاكم والديناميات الجديدة التي يخلفها، يجعل الاعلام فاقداً للشهية في التعاطي مع حقوق الانسان.

وبالعودة الى كريستيان أمانابور، فهي لم تتردد في ارتداء الحجاب أثناء مقابلتها زعيم حركة “طالبان” سراج الدين حقاني، الموجود اسمه على لائحة الارهاب التابعة للـ “اف بي أي”.

والتناسق يقتضي بأن يكون للاعلام موقف واحد مناصر للقضايا الانسانيّة من دون التعاطي معها بناءً على منطق سياسي لا حقوقي. فالموقف يقتضي بأن يقوم الاعلام على معايير انسانية وحقوقية وأن يقيّم مدى فعالية المقابلة التي يريد أن يجريها والمعطيات التي قد يحصل عليها، مقابل تنازله عن حريته ومبادئه. والحقيقة تُقال أن الصحافي ليس ناشطاً حقوقياً، لكن من واجبه أن يقدم هذه القضايا أولاً.

أراد الاعلام اللبناني أن يظهر بصورة مرنة ومنفتحة على بادرة التقارب الايراني من الدول العربية، لكنه، عن قصد أو غير يقصد، إجتزأ قضية “مهسا أميني” من الصورة التي ما عادت، مقارنة بالتحولات الاقليمية، تشكّل أي أولوية تُذكر.

نور صفي الدين- المدن

مقالات ذات صلة