أبرز مسربي الأسرار الأميركية في التاريخ الحديث ودوافعهم!
جدد اتهام عنصر استخباراتي بالقوات الجوية للحرس الوطني في ولاية ماساتشوستس الأميركية بتسريب 100 وثيقة في الأقل من أخطر أسرار الولايات المتحدة ذكريات التسريبات الأسطورية المشابهة عبر التاريخ الحديث، مما يجعلها ظاهرة طويلة الأمد تسبق عصر الإنترنت، وتثير في كل مرة جدلاً قانونياً وسياسياً حول دوافع المسربين، وكيفية استجابة السلطات لأفعالهم والعواقب الكبرى المقبلة، ولكن سواء كان البعض يسمي هؤلاء خونة أو مبلغين عن مخالفات، أو اعتبر آخرون أنهم أصحاب ضمير أو مغامرون مهووسون، فإن الأشخاص الذين يقررون بمفردهم تسريب الأسرار الكبرى للولايات المتحدة غالباً ما غيروا مجرى التاريخ، فما أبرز قصص التسريبات ومن هم أبطالها؟
أحدث المفاجآت
فوجئ العالم قبل أيام بقصة جديدة من قصص تسريبات الوثائق السرية التي خرجت من “البنتاغون”، وكان بطلها شاباً يدعى جاك تيشيرا يبلغ من العمر 21 سنة، يزعم أنه حصل على مواد سرية حول الحرب في أوكرانيا ودور الولايات المتحدة في تلك الحرب، وأنه حصد المعلومات من وكالات الاستخبارات الأميركية المختلفة، والتي جمعتها من عمليات المراقبة والتنصت على قادة العالم وأجهزة الاستخبارات العدوة والصديقة على حد سواء، مما أثار حرجاً بالغاً لإدارة الرئيس جو بايدن ووزارة الدفاع (البنتاغون) ومجتمع الاستخبارات الأميركي.
وكانت الصدمة الكبرى لمعظم الناس عندما وجدوا أن شاباً صغيراً جداً وبعيداً من التسلسل القيادي، توافر لديه مثل هذا الوصول إلى المعلومات أو تمكن من الحصول عليها من موقعه كعنصر استخباراتي في قاعدة عسكرية للحرس الوطني بولاية ماساتشوستس، ثم تسريب معلومات في أقصى درجات السرية والحساسية عبر مجموعة دردشة على منصة ديسكورد للرسائل الفورية، وانتقالها بعد ذلك إلى وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية، الأمر الذي فجر صيحات غضب من مختلف حلفاء الولايات المتحدة الذين كانوا أهدافاً للتجسس ولجمع المعلومات الاستخباراتية من الولايات المتحدة.
وعلى رغم أن الحكومات تدرك في الغالب أنها قد تكون معرضة للتنصت الإلكتروني من الأعداء والحلفاء، فإن كشف ذلك أمام الرأي العام المحلي والعالمي هو أمر آخر، ذلك أنه يحرج الحكومات المستهدفة، كما أنه يهز ثقة المقاتلين الأوكرانيين على الخطوط الأمامية الذين يعتمدون على الولايات المتحدة في كثير من أسلحتهم، ويزرع الفتنة بين واشنطن وحلفائها في حلف “الناتو” بالتالي يساعد الروس في النهاية.
لكن مع ظهور قصة هذا التسريب الجديد في وسائل الإعلام وما تبعها من القبض على تيشيرا ومحاكمته الأسبوع الماضي، عادت ذكريات أزمات نشر المعلومات السابقة وعواقبها التاريخية إلى الظهور من جديد للمقارنة وتعلم الدروس، وبخاصة ما يتعلق بأسرار الأمن القومي الأميركي وعلى رأسها قضية مشابهة كان بطلها دانيال إيلسبرغ الذي سرب عن عمد “أوراق البنتاغون” عام 1971 خلال حرب فيتنام، وأصبح في ما بعد مصدر إلهام لعدد لا يحصى من الناس في الولايات المتحدة وخارجها باعتباره أشهر مبلغ عن المخالفات في تاريخ الولايات المتحدة، والذي لا يزال وهو في سن 92 سنة الآن، يدعم بنشاط فكرة الشفافية الحكومية.
أوراق “البنتاغون”
ربما يكون إصدار أوراق “البنتاغون” هو أشهر تسرب للوثائق السرية الأميركية وأكثرها تأثيراً في تاريخ الولايات المتحدة، فقد غير هذا الكشف الضخم الذي كان بطله إيلسبرغ درجة التأييد في شأن حرب فيتنام، وأنتج قراراً تاريخياً للمحكمة العليا في شأن حرية الصحافة، وأثار رد فعل مبالغاً من الرئيس ريتشارد نيكسون أدى مباشرة إلى الفضائح التي أنهت على رئاسته، بحسب ما يقول كاتب سيرة نيكسون الذاتية عام 2017 وهو جون إيه فاريل، حينما قال “انتهت ملحمة أوراق البنتاغون مع الرئيس كضحية أولى لها، وليس إيلسبرغ المبلغ عن المخالفات”.
وكمحلل عسكري في مؤسسة “راند” يعمل في مشروع بتكليف من “البنتاغون” عام 1971 عن حرب فيتنام، اختار إيلسبرغ أن ينشر للجمهور سجلاً وثائقياً موسعاً لتورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام، والذي أصبح معروفاً باسم “أوراق البنتاغون”، لكن قبل ذلك كان إيلسبرغ من المحاربين في سلاح مشاة البحرية، قد بلغ من العمر 40 سنة وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفرد، وعمل في وزارتي الدفاع والخارجية ومؤسسة “راند” قبل ذهابه إلى فيتنام عام 1965، وهناك انقلب ضد الحرب والمبررات الرسمية المقدمة لها.
ومنذ عام 1969 كان واحداً من عشرات المحللين الذين يدرسون ويكتبون عن القرارات وراء تصعيد التدخل الأميركي في حرب فيتنام، وغطت بحوثه ودراساته السنوات من 1945 إلى عام 1968، والتي تم التكليف بها للمرة الأولى من قبل وزير الدفاع روبرت ماكنمارا. ومن خلال هذه العملية تمكن مع زميله في مؤسسة “راند” أنتوني روسو من الوصول إلى سبعة آلاف صفحة من المستندات السرية والسرد التاريخي الذي احتفظا به في المؤسسة، ثم بدآ في تهريب صفحة واحدة في كل مرة لتصويرها ليلاً، في عملية استغرقت أكثر من عامين.
وبعد ذلك، عرض إيلسبرغ الأوراق على عدد قليل من أعضاء مجلس الشيوخ الذين كانوا منتقدين للحرب على أمل أن يعقدوا جلسات استماع أو أن يدخلوا التقرير في سجل الكونغرس، لكنهم لم يكونوا مستعدين للقيام بذلك، وشجعه أحدهم على نشر الأوراق في صحيفة “نيويورك تايمز”، وهذا بالضبط ما فعله إيلسبرغ.
وفي 13 يونيو (حزيران) 1971 ظهرت القصة الأولى على رأس الصفحة الأولى في “نيويورك تايمز” بقلم الصحافي نيل شيهان، الذي كتب في مقدمة الموضوع أن الولايات المتحدة خاضت الحرب ليس لإنقاذ الفيتناميين من الشيوعية، ولكن للحفاظ على قوة ونفوذ وهيبة الولايات المتحدة، بغض النظر عن الظروف في فيتنام.
ولخص إيلسبرغ الأمر لاحقاً بقوله “كنا نعلم دائماً أننا لا نستطيع أبداً تحقيق النصر، ومع ذلك استمرت الحرب وخسرنا مزيداً من الأرواح، لأن القادة الأميركيين لم يكونوا مستعدين للاعتراف بعدم جدوى الحرب أو قبول إذلال الهزيمة”.
كان رد الفعل على نشر القصة فورياً، إذ طلبت وزارة العدل في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون من قاضٍ فيدرالي أن يأمر صحيفة “نيويورك تايمز” بالتوقف عن نشر القصص، لكن إيلسبرغ كان قادراً على مشاركة نسخة أخرى من التقرير مع صحيفة “واشنطن بوست” التي استكملت القصة من النقطة التي توقفت عندها الصحيفة المنافسة لها.
واتهم إيلسبرغ في النهاية بانتهاك قانون التجسس وهددت التهم الموجهة إليه بالسجن لمدة 115 عاماً، لكن في غضون ذلك، ذهبت أوامر إدارة نيكسون ضد الصحف إلى المحكمة العليا وصوت القضاة بأغلبية 6-3 لصالح نشر أوراق “البنتاغون”، واستأنفت “نيويورك تايمز” النشر في 1 يوليو (تموز).
وبينما كان إيلسبرغ ينتظر المحاكمة حاول نيكسون في البيت الأبيض استخدام وسائل أخرى لتشويه سمعته، بما في ذلك إرسال لصوص لمداهمة مكتب طبيبه النفسي، وعندما ظهرت هذه الممارسات غير القانونية وغيرها من الأنشطة الأخرى، رفض قاضٍ فيدرالي أشرف على محاكمة إيلسبرغ الاتهامات الموجهة إليه عام 1973.
قبل هذا الوقت كان رجال نيكسون الذين حاولوا سد تسريبات أوراق “البنتاغون” قد اقتحموا مرتين مقر اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي في واشنطن العاصمة، الواقع في مجمع مكاتب ووترغيت، وفي زيارتهم الثانية تم اكتشاف اللصوص واعتقالهم في يونيو 1972، وهكذا بدأ الكشف عن عديد من الجرائم والحيل والتستر الرسمي المعروف باسم “فضيحة ووترغيت”، والتي دفعت التحقيقات حولها الرئيس نيكسون إلى الاستقالة في أغسطس (آب) 1974.
تلاشى اسم إيلسبرغ وشهرته مع مرور الوقت، لكنه أصبح الأب الروحي لأجيال من متمردي المعلومات، وخصص معظم وقته للتدريس والكتابة، وكثيراً ما كان يرى ويسمع في مختلف الاحتجاجات التي تضمنت الحرب والسلام والأسلحة النووية والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفيدرالية ضد المبلغين عن المخالفات.
تسريبات “ويكيليكس”
في عامي 2009 و2010 حظيت منظمة جديدة تصنف نفسها على أنها مؤسسة صحافية باهتمام عالمي من خلال نشر سلسلة من الوثائق من الجيش الأميركي وخدمات الاستخبارات التي سربتها محللة الاستخبارات في الجيش الأميركي تشيلسي مانينغ، التي وجهت إليها في وقت لاحق 22 تهمة تتعلق بعصيان الأوامر وانتهاك قانون التجسس الذي سن عام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى، واستخدم كثيراً ضد المسربين وأنواع أخرى من المنشقين، كما واجهت مانينغ تهمة مساعدة العدو التي كان من الممكن أن تؤدي إلى عقوبة الإعدام.
سربت مانينغ إلى “ويكيليكس” 750 ألف وثيقة سرية أو حساسة وبرقيات دبلوماسية وسجلات للجيش ومذكرات، فضلاً عن مقاطع فيديو قوية لأحداث مهمة مثل غارة بطائرة هليكوبتر عام 2007 على أحد شوارع بغداد أدت إلى مقتل 12 مدنياً عراقياً، وغارة جوية أخرى في أفغانستان عام 2009.
صدر الحكم في النهاية على مانينغ بالسجن 35 عاماً، لكن الرئيس باراك أوباما خفف عقوبتها بعد أن قضت سبع سنوات. وقالت بعد إطلاق سراحها لشبكة “أي بي سي” الإخبارية إنه كانت لديها مسؤولية تجاه الجمهور.
أسس موقع “ويكيليكس” عام 2006 على يد محرر وناشر وناشط أسترالي يدعى جوليان أسانج، الذي أمضى عديداً من السنوات في معارك قضائية حول تسليم المجرمين إلى الولايات المتحدة بسبب تسريبات مانينغ، وإلى السويد بتهمة سوء السلوك الجنسي والتي تم إسقاطها لاحقاً، لكنه عاش في سفارة الإكوادور في لندن، وكان في السجن داخل إنجلترا منذ عام 2019 ويستأنف حالياً أمر تسليمه إلى الولايات المتحدة.
تسريبات وكالة الأمن القومي
شارك موقع “ويكيليكس” أيضاً في قضية إدوارد سنودن، خبير الكمبيوتر السابق في وكالة الأمن القومي، وهي إحدى وكالات الاستخبارات الأميركية الرئيسة، كما عمل أيضاً مع وكالة الاستخبارات المركزية. ففي عام 2013 سرب سنودن معلومات حول برامج المراقبة والتنصت الهاتفية التي تديرها وكالة الأمن القومي بشكل غير قانوني، وكذلك الوكالات المماثلة للحكومات الحليفة لأميركا في جميع أنحاء العالم بما في ذلك المملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا، وظهرت قصص تستند إلى الوثائق المعنية في صحيفتي “واشنطن بوست” و”الغارديان”، وهو مما أدى إلى اتهامه بسرقة ممتلكات حكومية وانتهاك قانون التجسس.
غير أن سنودن غادر الولايات المتحدة عام 2013 تحت رعاية أسانج للذهاب إلى الإكوادور، لكنه حصل في الطريق على اللجوء الموقت في روسيا ووجد صعوبة في المغادرة إلى أي بلد آخر، وظل في روسيا منذ ذلك الحين، وحصل على الجنسية الروسية عام 2022، ورفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النظر في أي أوامر تسليم لسنودن.
في مقابلة مع الإذاعة الوطنية العامة (أن بي آر) في عام 2019 قال سنودن إنه شارك هذه المعلومات السرية بهدف الاحتجاج على جمع البيانات بشكل مفرط عن الأميركيين من قبل الحكومة وغيرها، مشيراً إلى خطورة جمع بيانات عن المواطنين الأميركيين عبر الهاتف والأجهزة الذكية في المنزل، مما يجعل الناس خاضعين للحكومة لا شركاء لها.
كان موقع “ويكيليكس” معروفاً أيضاً بكشف رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بمديري الحملة الرئاسية لهيلاري كلينتون واللجنة الوطنية الديمقراطية عام 2016، حين أوضح التسريب أن اللجنة الوطنية الديمقراطية فضلت كلينتون في طريقها إلى الترشيح، وأجبر هذا رئيس اللجنة الوطنية الديمقراطية على الاستقالة، كما أغضب مؤيدي الحملة المنافسة للسيناتور بيرني ساندرز وأحرج حملة كلينتون والحزب عشية مؤتمره الوطني.
قضية رياليتي وينر
عام 2017 ألقي القبض على عضوة سابقة في القوات الجوية ومترجمة في وكالة الأمن القومي، تدعى رياليتي وينر، ووجهت إليها تهمة تقديم تقرير سري لموقع “إنترسبت” وهو موقع إخباري أميركي، إذ فصلت الوثيقة التي نشرها الموقع أحد جهود روسيا للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 من خلال استخدام مخطط ضد مسؤولي الانتخابات المحليين.
نشرت وينر الوثيقة من دون الكشف عن هويتها، لكن المحققين الفيدراليين تمكنوا من استنتاج أصولها عندما قدمها “إنترسبت” إلى وكالة الأمن القومي للتحقق منها.
وبعد اعتقالها قالت وينر لبرنامج “60 دقيقة” التلفزيوني على شبكة “سي بي أس” إنها شعرت بأنها مضطرة إلى إخبار الأميركيين بالحقيقة حول محاولات روسيا التدخل في انتخابات عام 2016، بالنظر إلى النفي المتكرر للرئيس آنذاك دونالد ترمب، مشيرة إلى أنها كانت تعتقد أن هناك من يحتاج إلى تصحيح هذا الأمر.
وجدت هيئة المحلفين وينر مذنبة بتسريب الوثائق إلى مؤسسة إعلامية، وأمضت أربع سنوات في السجن، لكن السلطات أفرجت عنها ووضعتها تحت المراقبة عام 2021.