هذا هو خيار دروز سوريا رغم كل المآسي والصعوبات !
الدروز هم جزء من النسيج العربي والإسلامي، قبِلوا بالانتساب للدعوة التوحيدية منذ القرن الحادي عشر ميلادي. يرتكز مذهب التوحيد الذي بشَّر به دعاة مقربون من الخليفة الفاطمي الإمام منصور بن العزيز بالله (الحاكم بأمر الله) على “وحدة الباري جلَّى وعلّى” وعلى مبادئ العدل والزهد والتقوى. ونُقلت أركان المذهب بواسطة رسائل “الحكمة” ومضمون غالبيتها الآيات البينات التي تستند الى كل ما يقرّه العقل والسراط المستقيم، وهي تدعو للابتعاد عن كل فحشاء ومُنكر. والدروز منتشرون في جبال لبنان ووادي التيم وجنوب سوريا وشمال فلسطين وشمال الأردن، وعدد قليل منهم ما زال يقطن في ريف محافظة إدلب السورية حتى اليوم، برغم أن غالبيتهم غادروا المنطقة في القرن السادس عشر مع أمير حلب علي باشا جنبلاط الذي اختلف مع الأتراك، وهو لجأ مع قسم من مناصريه الى جبال الشوف التي كان يتزعمها أنسباؤهم من التنوخيين وآل معن.
مجموع الدروز يصل إلى مليوني شخص، نصفهم يعيش في سوريا وغالبيتهم تقطن في محافظة السويداء، والنصف الآخر في لبنان وفلسطين والأردن. وكان لهؤلاء على الدوام دور سياسي وعسكري يفوق حجمهم العددي، لاعتبارات متعددة، أهمها شكيمتهم الشخصية التي تأسست مع الزمن في بيئة قاسية، وبسبب تعرضهم للاضطهاد والعداون في مراحل متعددة، ولأن المناطق التي يعيشون فيها وعرة، وتساعد في مقاومة الاعتداءات الخارجية، وتشجع على التمرُّد. وهم أسسوا الإمارة اللبنانية منذ مطلع القرن السادس عشر، وكان لهم دولة مستقلة في جنوب سوريا، عاشت بين العام 1921 والعام 1936.
اعتاد الدروز على مواجهة الظروف الصعبة والقاسية عبر التاريخ، وتعتبر الحماية الذاتية أولوية عندهم، انطلاقاً من حرصهم على الكرامة الشخصية وإبعادها عن المذلّة وعلى تقديس الحرمات، وأهمها سلامة المراكز الدينية، وحفظ طهارة النساء، أي عدم السماح بأي اعتداء عليهنَّ أياً يكن الثمن. وقد واجهوا في جبل العرب في سوريا تحديات قاسية خلال غزوة إبراهيم باشا الفاشلة عام 1838 وإبان ثورة العام 1925 ضد قوات الانتداب الفرنسي، وانتصروا عليها، وأعيدت التجربة منتصف خمسينات القرن الماضي خلال مواجهتهم لحملة الرئيس السوري أديب الشيشكلي على “جبل الدروز” وانتقموا منه شخصياً في ما بعد وقتلوه بعد فراره الى البرازيل. والدروز انخرطوا في مؤسسات الدولة السورية، خصوصاً خلال الخمسين سنة الماضية، وتخلوا عن بعض النمطية السياسية التي كانت معتمدة عندهم، بما في ذلك الانكفاء عن تأييد زعاماتهم التقليدية لصالح الحراك الحزبي والمؤسسات الرسمية، وابتعدوا عن جزء من تقاليدهم الاجتماعية التزاماً بالتوجهات القومية واللاطائفية التي ادعى اعتمادها حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، لكنهم اليوم يعانون من ظروف قاسية واستثنائية مضى عليها ما يزيد عن عشر سنوات جراء الأحداث التي اندلعت في سوريا منذ آذار (مارس) 2011 ولم تنته فصولها بعد.
بعد اندلاع الأحداث في سوريا انقسم الدروز الى فريقين: فريق منهم موالٍ للنظام الذي يترأسه بشار الأسد، وشارك في القتال الى جانبه في صفوف الجيش وفي وحدات “قوات الدفاع الوطني” الموالية له، وفريق واسع معارض لا يريد أن ينخرط بأي قتال داخلي، وهمّه الحفاظ على سلامة “أهل الجبل” والتمسُّك بوحدة سوريا، تحت شعار “الدين لله والوطن للجميع”، وهو شعار كان قد أطلقه ابن الجبل قائد الثورة السورية الكبرى في العام 1925 سلطان باشا الأطرش، وهو الطرف الأقوى. برز في مقدمة هذا الفريق المعارض “حركة رجال الكرامة” التي قادها رجل الدين وحيد البلعوس عام 2013، وتمدّد نفوذ الحركة الى غالبية مناطق محافظة السويداء، وهؤلاء رفضوا المشاركة في قتال جيرانهم في محافظة درعا، كما رفضوا تنفيذ قوانين التجنيد الإلزامي التي تفرض على الشباب قتال المعارضة من داخل صفوف الجيش العربي السوري.
اغتيل الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس عام 2015، ولدى مؤيديه اعتقاد واسع أن النظام يقف وراء تدبير عملية الاغتيال بواسطة سيارة مفخخة انفجرت قرب موكبه الذي كان يمرّ في أحد شوارع مدينة السويداء. وهذا الحادث زاد من اتساع رقعة الامتعاض عند الدروز – خصوصاً منهم رجال الدين – ضد الحكومة المركزية، وبدل أن تنتهي “حركة رجال الكرامة” كما كان يأمل أخصامها بعد موت قائدها؛ فقد تنامى نفوذها، وتسلَّم القيادة فيها موقتاً ابن الشيخ الشهيد وحيد البلعوس، ومن ثمَّ تولاها الشيخ يحيى الحجار الذي يتمتع بسمعة طيبة لدى رجال الدين والشباب، ولكنه أقل عداءً للحكومة المركزية من سلفه الشيخ البلعوس.
خلال هذه السنوات العصيبة؛ فتح وجهاء الدروز في سوريا علاقات طيبة مع القوات الروسية التي دخلت بقوة الى مسرح الأحداث بعد العام 2015، وقد شجع على هذه العلاقة وليد جنبلاط الذي يتزعم غالبية دروز لبنان، وهو لديه سمعة طيبة عند جميع الدروز، لما لعائلته من مكانة تاريخية، كما أن لوالده الشهيد كمال جنبلاط رصيداً كبيراً عندهم. وبالفعل أثمر التعاون مع القوات الروسية مجموعة من التسويات ومنها قبول التحاق الشباب الدروز بالخدمة الإجبارية في الجيش السوري، من دون أن يشارك هؤلاء بأي قتال ضد المعارضة خارج محافظة السويداء، كما أمن التعاون توفير بعض مقومات العيش لأبناء المحافظة، لا سيما الطحين والمحروقات وبعض التغذية في التيار الكهربائي.
بعد الهجوم الوحشي الذي نفذته قوات “داعش” الإرهابية على سكان شرق السويداء في تموز (يوليو) 2018 وأسفر عن مقتل ما يزيد عن 250 شخصاً؛ زاد القلق عند الدروز، وبرزت بين الشباب مجموعات إضافية تنادي بحمل السلاح ومقاومة أي عدوان، وساهمت أجهزة أمن النظام في تشجيع بعضهم، وتزويد البعض الآخر بالسلاح، ومنحتهم تسهيلات كبيرة، برغم أن الرأي العام الدرزي كان قد اتهم أجهزة النظام بغض الطرف عن عدوان مجموعات “داعش”، وهذه الأجهزة كانت قد نقلت العناصر الإرهابية من محيط دمشق الى شرق السويداء كنتيجة للمصالحات التي حصلت في تلك الأماكن. لكن أجهزة أمن الدولة والمجموعات التي تدور في فلكها ليست محبوبة من غالبية المواطنين، وهي متهمة بتشجيع عمليات السرقة والتشبيح وترويج المخدرات، وقد تعرضت أكثر من مرة لهجمات من حركة “رجال الكرامة” لوقف تجاوزاتها واعتداءاتها، وآخرها احراق المتظاهرين لمبنى محافظة السويداء في 4/12/2022 احتجاجاً على سوء إدارة الدولة للأوضاع المعيشية.
لقيت المجزرة التي ارتكبها “داعش” استنكاراً واسعاً، لا سيما عند دروز لبنان وفلسطين، خصوصاً لأن ما يزيد عن 36 شخصاً خطفتهم مجموعات “داعش” واقتادتهم معها الى جهة مجهولة، وبينهم أطفال ونساء. وقد اندفعت القيادات الدرزية لتأمين مساعدة لأخوانهم من النواحي السياسية والمالية، وتحرك المرجع الديني لدروز “إسرائيل” الشيخ موفق طريف بطريقه توحي بأن هؤلاء على استعداد للتدخل ميدانياً للمساهمة في حماية اخوانهم، وهو ما أعطى مؤشرات عن نوايا عند الدروز للانسلاخ عن الوطن الأم، وطلب حماية إقليمية، وهذا ما يرفضه زعيم الدروز في لبنان وليد جنبلاط، الذي يعتبر أن الدروز جزء من الشعب السوري، ولا يمكن القبول بأي طروحات تؤدي الى سلخهم عن هذا الواقع. وتحرك جنبلاط مع جهات دولية مؤثرة، لا سيما مع أصدقائه في روسيا، لضمان الاستقرار في محافظة السويداء. وبالفعل فقد ساهمت القوات العسكرية الروسية المنتشرة في سوريا في تأمين عودة المخطوفين الدروز، وأجرت اتصالات لتوفير حماية للسكان المدنيين في المحافظة.
مجزرة تموز (يوليو) 2018 التي نفذها “داعش” ضد الدروز؛ فتحت شهية الميليشيات التي توالي ايران لتوسيع نفوذها بين الدروز، عن طريق تجنيد شباب مقابل مبالغ مالية زهيدة، وفتحت مراكز لها في بعض قرى محافظة السويداء وفي محيط مدينة القنيطرة، وحصل ذلك بالتعاون مع “حزب الله” اللبناني وحلفائه من الدروز، لا سيما منهم الحزب الديموقراطي وحزب التوحيد. لكن الرأي العام الدرزي في السويداء لم يتجاوب مع هذه المحاولات، رغم حاجتهم للموارد المالية، ورغم الصعوبات المعيشية التي يعاني منها غالبية الدروز السوريين.
تبحث بعض الدول الإقليمية في توظيف الورقة الدرزية لخدمة مشاريعها التوسعية، ودفع هؤلاء للتفكير في الانفصال عن الدول الوطنية التي ينتمون اليها في لبنان والأردن وفلسطين وسوريا، وفي مقدمة هذه الدول “إسرائيل”، لكن هؤلاء لن ينخرطوا بأي مشروع معاد للواقع العربي المحيط بهم، وهم جزء لا يتجزأ منه. ومحاولات الحرس الثوري الإيراني لتنظيم مجموعات درزية توالي سياسته في سوريا ولبنان؛ فشلت في استجرار أي عطف سياسي وازن.
لدى دروز سوريا مخاوف واسعة من المستقبل، وهؤلاء يعانون من أوضاع معيشية صعبة للغاية، لأن مواردهم الزراعية تقلَّصت، ومكانتهم الوظيفية في مؤسسات الدولة السورية لم تعُد ذات تأثير كبير، ولولا المساعدات التي تأتي من الدروز الذين يعملون في دول الخليج العربي لأهاليهم؛ لكانت قد أصابت غالبية أهالي السويداء مجاعة فعلية، علماً أن بعض التقديمات الإنسانية التي تصل الى دروز سوريا من أقاربهم في لبنان وفي فلسطين غير كافية لمعالجة حالة الفقر والعوَز التي حلَّت بهم جراء تداعيات الحرب، وجراء اهمال الحكومة السورية المركزية لهم.
يكثر الكلام عن مشاريع سياسية درزية يمكن أن تنفَّذ في المناطق التي يعيشون فيها جنوب سوريا، لكن كل هذه المشاريع وهمية ولا يمكن أن ترى النور. ووجود الدروز هناك يعتبر حديثاً ولا يتجاوز عمره 400 سنة، وهم بغالبيتهم من أصول لبنانية، وبالتالي فلا يمكن لهؤلاء الذين لعبوا دوراً محورياً عظيماً في تاريخ سوريا أن يطعنوا بوحدة البلاد، ولا بجذورهم العربية، ولا بصلاتهم الوثيقة مع اقربائهم في لبنان، خصوصاً لكون الأعراف الدينية تعطي هؤلاء الأقارب مكانة متقدمة في المسائل الدينية، وأحياناً أخرى في المسائل السياسية الحساسة.
ناصر زيدان- النهار العربي