عندما فوجئت الطّبقة السياسيّة بموعد الانتخابات البلدية: كل عملها “طق حنك” وجعجعة بلا طحين!
كانت الطبقة السياسية في لبنان تعرف أن موعد الانتخابات البلدية اقترب. لم تتفاجأ ولم تكن مشغولة بأمور مصيرية. هي عملياً لا تعمل. كل عملها “طق حنك” ومماحكات بلا نتيجة، جعجعة بلا طحين. مناوشات ومناورات وصراخ وتبادل اتهامات على الشاشات وتبادل “هدايا” وتمريرات وقبلات في الكواليس. حرب داحس والغبراء على الشاشات وفي مواقع التواصل الاجتماعي وفي المهرجانات، ليست كذلك عندما تطفأ الأنوار وتغيب الميكروفونات.
الطبقة السياسية كانت تعرف أن الاستحقاق البلدي قادم في أيار (مايو) بعد تمديده سنة العام الماضي، لكنها تجاهلته عن سابق تصور وتصميم. لم يأت بغتة، يفترض أنها تعرف موعده منذ آخر انتخابات بلدية قبل سبع سنوات، وتعرف أنه يتطلب تحضيرات وأموالاً، وأكثر من ذلك يحتاج قانوناً جديداً تفرضه الوقائع المستجدة وتطورات الحياة والمجتمع اللبناني مع كل ما ألمّ بالبلد من تغيرات منذ أقر القانون الحالي وتعديلاته وعمل به في أول انتخابات بلدية بعد الحرب الأهلية عام 1998.
“فوجئت” به العام الماضي فمددت للمجالس سنة كاملة، وخلال هذه السنة لم تفعل شيئاً على الإطلاق، ركنت الموضوع على الرف وانصرفت إلى “القضايا الكبرى”، تستطيع البلديات أن تنتظر، هناك هموم مصيرية، من حرب أوكرانيا إلى المصالحة السعودية الإيرانية إلى احتمال اندلاع حرب بين إيران وإسرائيل وحرب في تايوان، إلى ثورة الذكاء الاصطناعي والخلاف بين الولايات المتحدة ومنظمة البلدان المصدرة للنفط “أوبك” على حجم الإنتاج وأسعار البرميل…
عندما اقترب الموعد طرح وزير الداخلية الصوت: نريد بضعة ملايين من الدولارات لتنظيم الانتخابات. من المفترض أن تؤمنها الحكومة، وهي حكومة تصريف أعمال مفلسة، هنا انقضّت الطبقة السياسية على الفرصة: لا إمكانية لتوفير المال والوقت يدهمنا (ما ألعنه هذا الوقت الذي يدهمنا دائماً). وفجأة أيضاً اتفق المختلفون على التمديد للمجالس البلدية: الثنائي الشيعي وجبران باسيل وتوابعهما وإلى حد ما نواب جنبلاط وبعض النواب من هنا وهناك، فيما يغيب النواب السنة عن موقع القرار ويتوزعون بين مؤيدين للتمديد ومعارضين ومتأرجحين، وينتظر المعارضون تتمة “المسرحية” التي قد تذهب إلى المجلس الدستوري لتنام دهراً فيكون “اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب”.
واقع البلديات في لبنان محزن، عشرات المجالس محلولة بفعل الاستقالات، ومئات معطلة بفعل الخلافات بين أعضائها وبفعل الفساد المستشري، وبخاصة بسبب تراجع العائدات ومساهمة الدولة وانهيار قيمة رواتب الموظفين والمتعاقدين الذين اضطرت بعض البلديات إلى صرفهم. البلديات اليوم على شاكلة الحكومة، تصريف أعمال بالحد الأدنى.
الطبقة السياسية في لبنان لا تحب الانتخابات، أي انتخابات، تفضل التوافقات في الكواليس والاتفاقات المسبقة على المحاصصة وتقاسم ما يمكن تقاسمه. والتاريخ يشهد. تأجيلات متكررة للانتخابات النيابية منذ 2009 حتى 2018، تأجيلات متكررة لانتخابات رئاسة الجمهورية في ثلاثة عهود متتالية، تأجيل ثان للانتخابات البلدية في سنة واحدة..
تميل الطبقة السياسية في لبنان إلى نظرية خاصة بها في انبثاق السلطات. كلمة السر هي التعيين. كلمة سحرية تطلق يدها وتحصر البلد كله بين أيديها. حتى الانتخابات عندما تقرر هذه الطبقة إجراءها تكون أشبه بالتعيين. نواب منتخبون بالتعيين، لا بأس ببعض فلتات الشوط هنا وهناك. الأكثرية معينون يحركون كالروبوتات لا طعم لهم ولا لون ولا رائحة. لا تجرى الانتخابات إلا بعد أن تكون الحسّابات ضمنت للكبار حصصهم واتفقوا على توزيعها بالعدل والقسطاس في ما بينهم.
الانتخابات البلدية مثل النيابية، لا سيما في المدن والبلدات الكبيرة، صحيح أنها تتم وفق انتماءات وتحالفات عائلات وأجباب وفروع وأصول على قواعد قبلية وعشائرية، إلا أنها لا تخرج كلياً عن إدارة الطبقة السياسية التي باتت تدير أيضاً الصراعات العائلية والقروية والنوازع الفردية والمصالح الشخصية للوجهاء والنافذين المحليين.
يريد السياسيون وقتاً لإدارة الانتخابات البلدية، أدركهم الوقت هذه السنة أيضاً، يريدون المزيد منه. البلديات مصدر سلطة ومال، وهم غير جاهزين لمعركتها، وعلى الأرجح خائفون من نتائجها ومن التفلت الشعبي من قبضتهم الذي بدأ يقض مضاجعهم. الاتفاقات على التعيين بالانتخاب تحتاج حوارات ومناورات وتفاهمات وصفقات لم تنضج بعد.
يريد السياسيون اللعب “عالمضمون”، البلديات عصب اللامركزية، إذا لم تكن تحت “رعايتهم” فقد تزعج سلطتهم. لا تكفيهم السيطرة على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والمؤسسات الأمنية والرقابية…. البلديات يجب أن تكون في جيوبهم أيضاً. إنهم لا يشبعون.
من شدة قرف الشعب ويأسه لم يأخذ إجراء الانتخابات على محمل الجد حتى قبل إعلان تأجيلها بكثير. لم يتحرك أحد في المدن والقرى، لم يعلن أحد عزمه على الترشح، وذلك عائد إلى كونه كان واثقاً بأنها لن تجرى، وإلى عدم رغبة كثيرين في خوض معارك دون كيشوتية من أجل مناصب فارغة من أي قدرة على الإنجاز وخاضعة في المحصلة لتدخلات السياسيين وأطماع بعض الطامحين إلى كراس هزازة. لم تعد مناصب البلديات شديدة الإغراء، فيما السياسيون عاجزون عن انتخاب رئيس للبلاد الغارقة في الفقر والشح وانعدام الوزن.
أجريتموها أم لم تجروها الأمر سيان بعدما طار البلد.
راغب جابر- النهار العربي