“معركة بين الحروب”: ملاحظات أوليّة على الحرب الصاروخية الجديدة

إذاً، فإن ما يجري هو بمثابة حرب صاروخية جديدة، بين إسرائيل وأطراف فلسطينية ولبنانية، علماً أن وصف ما يجري باعتباره حرباً ينطوي على مبالغة، لمحدوديتها في المكان والزمان ومستوى النيران، ولأنه لا يمكن المساواة بين غير المتساوين، فشتان بين الصواريخ الإسرائيلية المدمرة، والقذائف الصاروخية من جهة لبنان أو غزة، التي بالكاد تصيب شيئاً، أو تدمر حائطاً، وباعتبار أن إسرائيل وحدها هي من يمتلك إمكانات القدرة على الحرب، بمعنى الكلمة، في حين الأطراف الأخرى لا تملك ذلك، باستثناء الدفاع عن النفس والمقاومة.

لا تمكن إحالة تلك الحرب المحدودة (على الأرجح)، وهي بمثابة “معركة بين الحروب” (والتعبير للمحلل الإسرائيلي عمير رابابوت)، الى مجرد حدث معين، من هذا الطرف أو ذاك، فالسبب الأساسي يكمن في تشريد الفلسطينيين من أرضهم، منذ 75 عاماً، وفي الاحتلال، وضمنه احتلال القدس، منذ 56 عاماً، وبسبب سياسات إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والعدوانية تجاههم، وضمنها الاستيطان ومصادرة الأراضي والاعتقال وانتهاك المقدسات الإسلامية والمسيحية، وأيضاً غياب أي أفق للتسوية بسبب تملص إسرائيل، منذ ثلاثة عقود.

مع ذلك فإن هذه الجولة الصراعية تتميّز بأنها نتيجة تفاعل عوامل عديدة، أهمها:

أولاً، انتهاك إسرائيل حرمة المسجد الأقصى، في شهر رمضان، من قبل مجموعات من المتطرفين الإسرائيليين، في ظل حماية الحكومة التي تعتبر الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل.

ثانياً، تكرار ضرب إسرائيل أهدافاً إيرانية (ولـ”حزب الله”) في سوريا، إذ باتت تفعل ذلك بشكل شبه يومي، في الأيام الماضية، بعدما كانت تفعله مرتين أو ثلاثاً في الشهر، الأمر الذي بات يحرج النظام الإيراني، ومعه محور “المقاومة والممانعة”، الذي يتمنّع عن الرد، ويكتفي بالوعد بالرد في الزمان والمكان المناسبين، منذ سنوات، على غرار ما اعتاد النظام السوري.

ثالثاً، محاولة النظام الإيراني، و”حزب الله”، كذراع إقليمية له، تبييض صفحتهما، للتكيف مع التحولات السياسية في المنطقة، بركوب القضية الفلسطينية ومقاومة إسرائيل، مجدداً، للتغطية على مشاركتهما في قتل السوريين (طوال الأعوام العشرة الماضية) وتشريدهم، في إطار دفاعهم عن نظام الاستبداد والفساد، وللتغطية على سياستهما في تقويض بني الدولة والمجتمع في بلدان المشرق العربي واليمن، عبر الميليشيات الطائفية المسلحة، وإثارة النعرة الطائفية في تلك البلدان، الأمر الذي استثمرت فيه إسرائيل جيداً لمصلحتها.

رابعاً، سعي حركة “حماس” (وهي سلطة في قطاع غزة) لاكتساب صدقية لادعاءات القدرة على فرض ما يسمى “قواعد اشتباك” مع إسرائيل، وتوازن الردع، ووحدة الساحات، الأمر الذي لم يثبت، إذ ظلت إسرائيل تستفرد بهذه المنطقة أو تلك، أو هذا الفصيل أو ذاك، كما ظلت على سياساتها بتعزيز الاستيطان وتهويد القدس والاعتقالات وانتهاك المقدسات؛ علماً أن ثمن ما تحاوله “حماس” باهظ جداً، إذ ثمة مليونا فلسطيني في غزة في حالة حصار شديد، وفقر مدقع، وانعدام فرص، منذ 15 عاماً، مع فاتورة كبيرة في الخسائر البشرية (نحو أربعة آلاف شهيد وإضعافهم من الجرحى) ومع الدمار الكبير في البني التحتية والممتلكات.

تلك هي الأسباب المباشرة لهذه الجولة الجديدة من المواجهات، لكنها تلفت الانتباه إلى:
أولاً، افتتحت تلك الجولة برشقات صاروخية من غزة، ما يعكس الإحراج الذي تشعر به بعض الفصائل الفلسطينية، في محدودية ردها على غطرسة إسرائيل وانتهاكاتها للمسجد الأقصى، كما يعكس ذلك استعدادها مجدداً للانجرار إلى المربع العسكري الذي تتفوق فيه إسرائيل، في حرب صاروخية غير متكافئة، هي الأريح لها لأنه يظهرها كضحية أو كمن يدافع عن نفسه (قصف مقابل قصف) بدل أن يظهرها كمن يقمع الفلسطينيين، أو كمعتدٍ.

ثانياً، بدا واضحاً أن “حزب الله”، ومن خلفه النظام الإيراني، يسعيان إلى الاحتجاب وراء فصائل فلسطينية، علماً أنه لا يوجد (منذ 1983) أي قواعد عسكرية لتلك الفصائل في جنوب لبنان، فـ”حزب الله” هو صاحب قرار الحرب في لبنان كله، ولا أحد يمكن أن يطلق رصاصة، لا فلسطيني ولا حتى لبناني من جنوب لبنان من دون قرار منه، وبموافقة مرجعيته في طهران.

ثالثاً، مشكلة “حماس” أنها لا تستطيع التنكر، أو نفي، إطلاقها صواريخ من لبنان، إزاء داعميها (إيران و”حزب الله”)، ولأن ذلك يحرجها أمام مناصريها، فضلاً عن أن البعض فيها يرى في ذلك فائدة لها، لتعزيز مكانتها كسلطة في غزة، وفي قيادة الوضع الفلسطيني.

رابعاً، قد يمكن تفسير حصر إسرائيل تهمة إطلاق الصواريخ من لبنان بحركة “حماس” للتخفّف مما حصل، بعدم تحميل تلك المسؤولية لـ”حزب الله” وبالتالي لإيران، ربما لأن إسرائيل لا تريد في هذه الظروف الدقيقة (إسرائيلياً وإقليمياً ودولياً) توسيع رقعة الحرب.

على ذلك، وبعد كل التشابكات والتعقيدات المذكورة، يفيد التذكير بأن هذا النقاش ليس له علاقة بالمقاومة المشروعة ضد الاحتلال والاضطهاد والمحو، وضمنها المقاومة المسلحة، وإنما له علاقة بحسابات توظيف القضية الفلسطينية، والمقاومة، لأهداف سياسية أخرى، سلطوية من جهة، وتتعلق بتعزيز نفوذ إيران من جهة أخرى.

من جهة أخرى، فإن ما يجب إدراكه أن المقاومة ليست حبراً على بياض، إذ يفترض أن تكون لها استراتيجية واضحة، وأن تحرص على استنزاف العدو، لا تمكينه، أو تسهيل استنزاف مجتمعها له، لا سيما إذا كانت بـ”الصواريخ”، وقد يفيد التذكير هنا أن مبادرة بعض الشباب الى بضع عمليات فدائية، في العام الماضي، كبّدت إسرائيل خسائر بشرية أكثر مما كبّدتها الحروب الصاروخية منذ 15 عاماً، مع كلفة أقل بكثير. أيضاً، يفترض بالمقاومة أن تكون مسؤولة ومحسوبة وتعتمد على إمكانات شعبها، وأن تتسم بالديمومة، ويمكن استثمارها، وضمن ذلك في إثارة التصدع أو التناقضات في مجتمع الكيان الذي تصارعه.

مشكلة هذه الجولة من الاشتباكات أنها أتت فيما المجتمع الإسرائيلي في حالة تصدع، وحكومة نتنياهو في لحظة قطيعة مع الدول الكبرى، وإسرائيل تظهر على حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية وعدوانية، في حين أتت الصواريخ لتقطع تلك المسارات، فتوحِد الإسرائيليين إزاء ما يسمونه خطراً خارجياً، وتعيد لإسرائيل علاقاتها مع حلفائها، إذ باتت المسألة دفاع إسرائيل عن نفسها؛ وهو ما حصل إبان القصف الصاروخي في الحرب الخامسة على غزة (أيار/مايو 2021)، الذي قطع الهبّة الشعبية للفلسطينيين (هبّة الشيخ جراح)، التي كانت امتدت من النهر إلى البحر. وبالنتيجة فقد توقفت الاشتباكات الصاروخية، بعد دمار كبير في غزة و243 شهيداً، وبعد انتهاء تلك الهبّة اللافتة، التي شارك فيها فلسطينيو 48 بشكل فعال.

على أي حال، فإن الظرف الدولي والعربي والإسرائيلي والفلسطيني، غير المواتي أبداً للفلسطينيين، لا سيما في ظروف اختلافاتهم وتشتتهم وضعف إمكاناتهم، يفترض أن يثير أقصى حالات الحذر من إمكان قيام إسرائيل، وهي في أوج تطرفها، باستغلال أي حدث، للقيام بخطوة دراماتيكية من نوع اقتلاع مئات أو عشرات ألوف الفلسطينيين من الخليل أو الجليل أو القدس.

والسؤال للجميع، بخاصة أصحاب مقولات توازن الردع، وسنزلزل الأرض تحت أقدام إسرائيل، والحرب الصاروخية، من الذي سيمنع خطوة مثل ذلك، فلسطينياً، عربياً، إقليمياً، ودولياً؟ فإذا كان بوتين شرد عشرة ملايين أوكراني، ونظام الأسد شرد مثلهم من السوريين منذ سنوات، فكيف بالنسبة الى إسرائيل حبيبة أميركا وأوروبا وروسيا والصين والهند والسند؟!

هذا السؤال يفترض ملاحظته، والأهم الإجابة عنه بمسؤولية، مع تأكيد أن الأولوية بالنسبة الى الفلسطينيين في هذه الظروف العصيبة والمعقدة، تكمن في تعزيز صمودهم في أرضهم، وبناء كيانهم الوطني الجامع، وفق رؤية وطنية تطابق بين الشعب والأرض والقضية، وإعادة الاعتبار للمقاومة، بوصفها مقاومة شعبياً أساساً، فمن دون ذلك فإن أي مقاومة، مهما كانت مستوياتها وأدواتها، ستبقى مجرد تقديم تضحيات من دون اقتران ذلك بإنجازات سياسية، حتى ولو كانت جزئية.

ماجد كيالي – النهار العربي

مقالات ذات صلة