غلبة الشيعية السياسية برافعتها “حزب الله” في صراع الرئاسة: لبنان يقترب من الانفجار!
لا شيء يوقف الانهيار الذي يُغرق لبنان بأتون الأزمات والحروب غير العسكرية حتى الآن. البلد يشتعل من دون قذائف حيث تتهاوى كل معالم الدولة بتفكك المؤسسات وسط انقسام أهلي وطائفي وسياسي كانت آخر تجلياته حرب “الساعة”، والتي كشفت عن اهتراء البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمالية، وارتداد القوى كلها إلى بيئاتها الطائفية بعدما كانت تخوض صراعاً في الحكم حول المحاصصة أوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم بفعل عجزها عن صوغ تسويات إنقاذية لا بل إصرار بعضها على التحكم بمسار الأمور والهيمنة على مقدرات الدولة والقرار.
تسارع الانهيار ومعه حروب الفوضى وتآكل القدرة الشرائية للبنانيين مع انهيار الليرة أمام الدولار، كلها لم تدفع القوى السياسية والطائفية اللبنانية إلى البحث عن مخارج للأزمة، لا بل إننا نشهد تصلباً في المواقف واستعصاءات حول الاستحقاقات خصوصاً انتخابات الرئاسة، في مقابل مراوحة الحركة الدولية تجاه لبنان واستمرار الخلاف حول الأولويات وأسماء المرشحين للرئاسة، ما يؤدي إلى مزيد من اللااستقرار وجمود سياسي وفراغ يعطل كل آليات تسيير شؤون الدولة، وهو ما نشهده في إدارات القطاع العام حيث الاضرابات ومقاطعة العمل يزيدان من عمق الأزمة فيما حكومة تصريف الأعمال عاجزة عن قيادة البلاد إلى حلول موقتة أو نقلها إلى بر الأمان.
في الصراع القائم حول الاستحقاق الرئاسي، تذهب الأمور داخلياً إلى مزيد من التعقيد، ويبدو أن “الثنائي الشيعي” وتحديداً “حزب الله” مصرّ على موقفه بإيصال مرشح الممانعة سليمان فرنجية إلى القصر الرئاسي، مستنداً إلى فائض قوته ومراهناً على تغييرات إقليمية تدفع السعودية إلى تعديل موقفها ومراهناً على الوقت لدفع القوى الداخلية في المقلب الآخر على التسليم بخياره، طالما هي عاجزة عن الاتفاق على اسم مرشح واحد. وينطلق “حزب الله” في مراهنته أيضاً من الموقف الفرنسي الذي تسعى باريس من خلاله الى المقايضة أي انتخاب فرنجية الممانع وإيصال رئيس حكومة من الطرف الآخر، وهو ما أدى إلى خلاف مع السعودية المصرّة على إيصال رئيس من خارج الاصطفافات.
لكن الحركة الدولية تجاه لبنان تدور في حلقة مفرغة، على وقع الاستعصاءات اللبنانية الداخلية، فمنذ اللقاء الخماسي في باريس الذي جمع فرنسا والولايات المتحدة الأميركية والسعودية وقطر ومصر، في 6 شباط (فبراير) الماضي، والذي أظهر وجود اختلافات في وجهات النظر حول لبنان، لم يمارس المجتمع الدولي ضغوطاً كما كان يحدث في أزمات سابقة، فيما ظهرت مبادرات متفرقة بمعزل عن الاتفاق السعودي – الإيراني، وإن بدت الحركة السعودية هي الأقوى في ما يتعلق بالمواصفات التي على أساسها يجب أن يُنجز الاستحقاق اللبناني. وقد يكون الحديث عن مبادرة مصرية لتنظيم لقاء في بيروت أحد أوجه الانطلاقة الدولية والعربية الجديدة لحل المشكلات اللبنانية، لكنها تحتاج إلى توافق بين الدول المقررة في الشأن اللبناني خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية التي لم تحدد موقفاً نهائياً من أي مرشح لكنها تبدو حاسمة في رفضها لوصول سليمان فرنجية الى الرئاسة، وأيضاً التوصل الى توافق فرنسي – سعودي لم تظهر أي معالم له حتى الآن.
هناك محاولة أخرى للتوصل الى تسوية رئاسية تقودها قطر، وهي تندرج في الوجهة التي ناقشها لقاء باريس الخماسي، حيث تسربت معلومات عن زيارة سيقوم بها وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري محمد بن عبد العزيز الخليفي إلى بيروت، بعد زيارته الأخيرة إلى إيران، ويتوقع أن يبحث خلالها في الشأن الرئاسي للوصول إلى تقاطعات أو تسويات بين الأطراف اللبنانية لإنجاز الاستحقاق. وإذا كانت للدوحة علاقات مع كل القوى لتليين مواقفها خصوصاً مع “حزب الله” إلا أن قطر لا تستطيع الخروج عن الوجهة العامة التي حددها لقاء باريس الخماسي، إضافة إلى أنها تنسق مع السعودية في الموقف من الملفات اللبنانية، فيما الرهان على تحقيق إنجاز قطري في الملف الرئاسي أمر مستبعد في ظل الانقسام اللبناني والاستعصاءات الداخلية والتوترات الطائفية، وتشبث “الثنائي الشيعي” بموقفه، ورفضه لتقديم أي تنازلات في ظل موازين القوى القائمة، لا بل يطمح للمزيد من المكاسب في أي تسوية مقبلة.
حتى الآن لا طرح جدياً من المجتمع الدولي لاسم مرشح إنقاذي أو خارج الاصطفافات في مقابل تمسك الشيعية السياسية بفرنجية رغم الرفض المسيحي له أو على الأقل من الكتل المسيحية الأساسية. ومع أن هناك أسماءً مطروحة من خارج الاصطفافات إلا أنها لم تحظَ حتى الآن بدفع سياسي للتوافق حول اسم منها. وللمفارقة أن “الثنائي الشيعي” نجح في تحييد قائد الجيش جوزف عون، وذلك من خلال تسليط الضوء عليه أنه مرشح الأميركيين الذين لم يتبنوا اسمه كمرشح، وهو أيضاً لم يتمكن من نيل إجماع مسيحي حوله، لا من التيار الوطني الحر، ولا حتى من القوات اللبنانية التي لم تعلنه مباشرة، فيما لم تحظَ أسماء مثل جهاد أزعور أو زياد بارود، برافعة سياسية داخلية ودولية للدفع باسم منهما كمرشح رئاسي. علماً أن “حزب الله” يرفض الاسمين، على الرغم من أن أزعور مثلاً وإن كان اليوم مديراً لإدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، إلا أنه كان وزيراً للمالية في حكومة فؤاد السنيورة بين 2005 و2008، وتولى مهمة أساسية مساعداً لوزير المال السابق جورج قرم ولديه علاقات مع كل الأطراف ورشح لحاكمية مصرف لبنان في 2011. والثاني أي بارود كان وزيراً للداخلية. إلا أن “حزب الله” يصر على سليمان فرنجية كمرشح لا يطعن المقاومة بالظهر، ويخوض معركته اللبنانية لتعزيز مكاسبه انطلاقاً من ترشيحه.
يعرف “حزب الله” أن مشكلة فرنجية هي في البيئة المسيحية التي ترفضه قواها، وتعتبر أن ترشيحه من “الثنائي الشيعي” يجعله مرشحاً من خارج الإرادة المسيحية. لكن المسيحيين في المقابل غير قادرين على التوافق على اسم من خارج الاصطفافات وذلك في إطار الصراع المستحكم في ما بينهم، وهم يذهبون الى طرح الفدرالية عند كل منعطف سياسي حاد، ما يؤشر الى أن المشكلة هي أكبر من مجرد انتخاب أو استحقاق بعينه. على أن إصرار الشيعية السياسية يعطي أيضاً حافزاً أو مبرراً لطرح هذا النوع من الشعارات في إطار الصراع القائم على هوية البلد، وهو الأمر الذي تفجر بعد قرار “الساعة” وأيضاً في الاشتباك الذي حدث في اجتماع اللجان النيابية في مجلس النواب. وللمفارقة أن المعارك تتنقل بين ضفة وأخرى، لتسجيل مواقف وإعلان انتصارات، فيما البلد كله يتهاوى على وقع الفراغ والحروب المتناسلة من الأزمات المعيشية والاقتصادية والمالية وعجز القوى عن التلاقي لإنتاج تسوية أو حل موقت يوقف الانهيار المتسارع في البلاد.
أمام هذه الوقائع، لا يبدو أن الاستحقاق الرئاسي قريب من الإنجاز، لا بل إننا قد نشهد مزيداً من التفلت والتوترات التي تهدد لبنان بالخراب. المعادلات القائمة تشير إلى أن الشيعية السياسية ماضية برافعتها “حزب الله” في ترشيحها فرنجية لتحقيق مكاسب تعتبرها من حقها في ظل موازين القوى الداخلية المختلة لمصلحتها، فيما الأطراف الأخرى خصوصاً الكتل المسيحية تذهب نحو طرح الفدرالية والتقوقع في بيئاتها، أما الخاسر الأكبر، فهو البيئة السنيّة التي دفع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أخيراً ثمن تسرعه في قرار “الساعة” والعودة عنه. وما لم تظهر تطورات داخلية ودولية تؤشر إلى مسار جديد للحل أو التسوية، سيكون مشهد لبنان مأسوياً مع اشتداد الصراع الأهلي والطائفي على من يكون الغالب في تركيبة البلد وصيغته المقبلة.
ابراهيم حيدر- النهار العربي