“النزعة الإستعمارية” لدى باريس وتعميق الخلاف مع السعودية: مصالح الشركات اولا !
تدفع المواقف الفرنسية في لبنان إلى اعادة قراءة محطات أساسية لفرنسا في المنطقة والعالم تنطوي على استمرار “النزعة الإستعمارية” لدى باريس. يبرز لدى فرنسا، برئاسة إيمانويل ماكرون، طموح متجدد لقيادة أوروبا.
بالإستناد إلى القراءات التاريخية، يتضح أن الفرنسيين إذا ما أعطوا “إشارة باتجاه اليمين” فحتماً سيتوجهون نحو اليسار. يبقى لبنان أحد أهم الإختبارات لهذه السياسة الفرنسية وتحديداً منذ العام 2020 وتقديم المبادرة. بمنطق الشعور العاطفي أو الشعبوي الذي استخدمه ماكرون خلال زيارته إلى بيروت بعد تفجير مرفأ بيروت وجولته في المناطق المتضررة والمدمرة، أظهر ماكرون نفسه كفاتح يريد الإقتصاص من المجرمين، وان على يديه خلاص العباد من الإستعباد.
مصالح الشركات اولا
تأمل اللبنانيون كثيراً بكلام الرجل حول محاسبة السلطة السياسية، وتقديم مبادرة كانت ستشكل منعطفاً على طريق تغيير سياسي كبير. ولكن سرعان ما تغيّر الجو كلياً في اجتماعه مع المسؤولين السياسيين في قصر الصنوبر. تقلّصت طموحات المبادرة، وتم التخلي عن بنودها تباعاً للعودة إلى العمل وفق الآليات المعروفة والتي يمكن تلخيصها بنشاط شركة توتال وشركة cma cgm، التي يصفها بعض العالمين بأنها أصبحت دولة داخل الدولة. كان الهمّ السياسي يتركز على ضرورة المجيء بمن يضمن مصالح هذه الشركات. وهذا المنطق لا يزال مستمراً في المقاربة الفرنسية الحالية لانتخاب رئيس للجمهورية.
تبنٍ علني لترشيح فرنجيه
هذا هو السبب الأساسي الذي يقف وراء الخلاف الفرنسي السعودي الكبير والآخذ بالإتساع أكثر فأكثر، من خلال تمسك باريس علانية وبشكل رسمي بتبني خيار سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، في مقابل نواف سلام لرئاسة الحكومة. تُغلف هذه المقايضة بكلام معسول يرتبط بالحصول على ضمانات أو صلاحيات موسعة للحكومة وهو ما يعرف الجميع أنه غير ممكن في ظل موازين القوى القائمة، وأنه عندما طرحت فكرة حكومة اختصاصيين مستقلين بمجوب المبادرة الفرنسية في 2020 بصلاحيات واسعة، سرعان ما تم الإنقلاب عليها وبمباركة فرنسية أيضاً. أما استعادة كلام الرئيس الفرنسي وغيره من المسؤولين سواء السفيرة في بيروت أم باتريك دوريل أم بيار دوكان عن لبنان والمسؤولين اللبنانيين فتظهر نزعة فوقية تحمل شكلاً من أشكال الإملاءات، أو نزعة امبريالية، وهو ما يحاول الفرنسيون تعميمه في تعاطيهم مع الدول الأخرى التي تهتم بالشأن اللبناني.
تعميق الخلاف مع السعودية
بعد إجتماع باريس الخماسي في السادس من شباط، والإتفاق على مواصفات معينة لرئيس الجمهورية وللمرحلة المقبلة، تيقنت الدول الأربع أن باريس قد خرجت عن مجريات الإجتماع ولجأت إلى تسويق فكرة المقايضة، وبحسب ما يقول معارضون لهذه الآلية الفرنسية فإن أسبابها ترتبط بنشاط لوبيات لبنانية فرنسية جموحة الطموحات في بحار النفط والغاز. تجلى الإختلاف في وجهات النظر بين الفرنسيين والسعوديين أكثر في اجتماع باريس عصر السبت. إذ بقي الفرنسيون على تمسكهم بخيار المقايضة وبتبني ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية فيما أصر السعوديون على رفض هذه المعادلة. انتهى الإجتماع على لا اتفاق. رفض كل طرف من الطرفين التنازل، فيما يفترض أن يبقى التواصل قائماً ولكن في حال عدم تحقيق أي تقدم يعني أن الأزمة ستكون طويلة.
منذ سنوات يسعى الفرنسيون إلى إظهار أنفسهم بأنهم على توافق تام مع حلفائهم، سواء مع السعودية أو مع الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن هذا يبقى غير دقيق، فالمبادرة الفرنسية والتي سوّق الفرنسيون لها كإتفاق منجز يحظى برعاية هذه الدول، بينما الواقع لم يكن كذلك. يستذكر الجميع العقوبات الاميركية التي أسهمت في إطاحة المبادرة، بينما كان الموقف السعودي واضحاً في رفض معاييرها لأنها تنطوي على ازدواجية.
صراع المصالح والقيم
مثل هذه السياسة عبر عنها الفرنسيون في علاقتهم مع إيران سابقاً، من خلال الحماسة للإتفاق النووي من دون أي ثمن سياسي طمعاً بالدخول إلى السوق الإيرانية، وهو ما تكرر في العراق أيضاً من خلال مشاريع لشركة توتال بـ27 مليار دولار. الأمر نفسه ينطبق على لبنان وسوريا مستقبلاً، وهو ما يُعتمد في افريقيا.
دفعت الإحتجاجات الإيرانية باريس إلى تصعيد موقفها من طهران، وهذا بحد ذاته مؤشر على صراع فرنسي فرنسي ما بين الهوية التاريخية القائمة على الحداثة وما بعدها وعلى الحرية ودعم القيم من جهة، وبين الطموحات المصلحية الإستعمارية، التي حتماً تتناقض مع ما سلف تقديمه من قيم وروحية الثورة الفرنسية ومرتكزات ثقافة التنوير وحقوق الفرد أو الشعوب. ما يجري مع فرنسا لبنانياً أو في علاقاتها مع السعودية مثلاً، له ما يماثله تاريخياً مع أبرز حلفائها الدوليين وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
بين فرنسا بريطانيا وأميركا
في الصورة العامة تظهر بريطانيا بأنها التوأم لفرنسا منذ أيام التحالف في الحرب العالمية الأولى وسايكس بيكو إلى الحرب العالمية الثانية. إلا أن ذلك لم يكن صحيحاً على الإطلاق. الامر نفسه ينطبق على علاقة فرنسا بالولايات المتحدة الأميركية حيث كانت في الحرب العالمية الأولى تلتقي المصالح الفرنسية مع أميركا ضد بريطانيا. أما اليوم يبرز تضارب في المصالح الفرنسية عن الأميركيين الذين يتقاطعون بشكل أو بآخر مع البريطانيين.
أوضح هذه الصراعات يأتي ما بعد بريكست وخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، وصولاً إلى تحالف بريطانيا مع أميركا واستراليا التي تم استقطابها من علاقة استراتيجية مع فرنسا. يقول الباحث توم ماكتاج، وهو كاتب في مجلة “الأتلانتيك” مقيم في لندن، بأحد تعليقاته على معاهدة أوكوس بين بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية واستراليا، وهي المعاهدة التي ألغت أكبر صفقة بين فرنسا واستراليا لجهة تزويد الأولى للثانية بالغواصات:” إن بريطانيا تعتبر رد الفعل الفرنسي على اتفاقية “أوكوس” تعبيراً عن شوفينيتها المستترة المعادية لأميركا، وتشبُّثها بالعظمة الضائعة منذ زمن، وإستراتيجيتها الخبيثة لاستخدام الاتحاد الأوروبي وسيلة لتصل إلى هدفها باستعادة الأضواء العالمية.”
مكائد السياسات
بالعودة في التاريخ إلى الوراء، يقول الكاتب البريطاني جايمس بار في كاتبه “خط في الرمال” والذي يحكي قصة صراع فرنسا وبريطانيا الذي شكل الشرق الأوسط في حقبة الحرب العالمية الأولى، إنه استند في ما قدمه إلى أرشيف وزارة الخارجية البريطانية. يشير بوضوح إلى ما كان يتم تصويره حلفاً لم يكن كذلك بواقع الحال، لا بل كان هناك صراع وخصومة. فالخلاف كان دائماً بين الطرفين، سواء في أوروبا او على ميراث السلطنة العثمانية أو في منطقة الشرق الأوسط. صراعات كثيرة وقعت بينهما أبرزها كاد أن يودي إلى حرب بين الطرفين إثر الصراع على نهر النيل منذ العام 1898.
ومما يشير إليه جيمس بار، هو دعم فرنسا للجماعات اليهودية المتطرفة لاستهداف المصالح البريطانية في المنطقة ولا سيما في فلسطين، مع فتح المجال واسعاً امام هذه الجماعات بالدخول إلى فلسطين، بهدف طرد البريطانيين منها، ويستند بار في ذلك إلى وثائق الخارجية البريطانية. وفي مقابلة مع التلفزيون العربي ببرنامج “وفي رواية أخرى” يقول جايمس بار إنه في العام 1944 وعندما كانت القوات البريطانية تتدخل لتحرير فرنسا من ألمانيا النازية، كانت حرب بريطانية فرنسية تدور في فلسطين من خلال هجومات يشنها اليهود المتطرفون المدعومون بأسلحة فرنسية ضد الجيش البريطاني والمصالح البريطانية. ومما يرويه جايمس بار عن الصراع الفرنسي البريطاني هو محاولة إرهابي يهودي تلقى دروسه وتدريباته في فرنسا وهو خريج معهد باستور، لدس الكوليرا في المياه وتسميمها في بريطانيا إلا أن المحاولة أفشلت.
مفاجأة الإتفاق السعودي-الإيراني
ويشير الباحث الاسرائيلي مائير زامير، وهو من يهود العراق في كتاب أصدره بعنوان “الحرب السرية بين بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط” إلى كيفية دعم فرنسا للجماعات اليهودية المتطرفة ضد بريطانيا ومشروعها الذي كان يدعم مجموعات عربية لقيام دولة. ومما يرد في الكتاب أن العرب المتحالفين مع بريطانيا كانوا يسعون إلى تقويض الإنتداب الفرنسي الذي كان مبنياً على دعم الأقليات والتحالف معها. كل هذه السياسة دفعت فرنسا للخروج من المنطقة، لصالح التقدم الأميركي البريطاني، وهو ما كانت باريس تسعى إلى تكراره في علاقتها مع إيران في السنوات الماضية على حساب العرب، لكنها وجدت نفسها مضطرة إلى إعادة العلاقات مع الدول العربية، فيما حتماً تفاجأت بالإتفاق السعودي الإيراني والذي لا بد أن يكون له تداعيات يفترض بباريس مراجعة سياستها بناء عليه.
منير الربيع- المدن