القوى المسيحية ستتقارب بعدما «جمعتها المصيبة»: هل من عودة إلى «نموذج» الياس الهراوي؟
يقول سياسي مخضرم إنّ العناد الحاصل اليوم بين الخيارات الثلاثة: سليمان فرنجية وجبران باسيل (ينتظر اللحظة الأفضل للكشف عن دخوله المعركة) والعماد جوزف عون هو أفضل وصفة للفراغ الرئاسي. فالثلاثة يعانون صعوبات حقيقية في الوصول إلى الرئاسة.
يعتقد هذا السياسي أنّ الخيار «العميق» لبعض القوى السياسية هو العودة إلى ما قبل تجربة الرئيس ميشال عون في الرئاسة، أي إنهاء «التقليد» الذي أوحى عهد عون بتكريسه، والقائل إنّ على رئيس الجمهورية الماروني أن تكون له حيثية تمثيلية في طائفته، وأن ينطلق من هذه الحيثية، كما هو أمر الطائفة الشيعية في موقع رئاسة المجلس النيابي.
في فترة الفراغ الرئاسي السابق (2014 – 2016)، اجتمع الموارنة الأربعة الأكثر تمثيلاً مسيحياً (عون، جعجع، الجميّل الأب وفرنجية) في بكركي، وقرّروا أن يكون التمثيل المسيحي في رئاسة الجمهورية «حقيقياً». والمعادلة التي حاولوا إرساءها هي إقامة توازن بين الطوائف في مواقعها التمثيلية: فرئيس الجمهورية يجب أن يمثّل المسيحيين، كما يمثّل الرئيس نبيه بري الشيعة في المجلس النيابي، والرئيس سعد الحريري السنّة في رئاسة الحكومة. وأراد هؤلاء أن يكسروا النهج الذي تم اعتماده بعد الطائف، والقاضي بأن يكون رؤساء الجمهورية من غير الأقطاب الممثلين لطائفتهم.
يومذاك، كان هناك إجماع لدى الثنائي الشيعي والحريري وجنبلاط على أفضلية فرنجية بين الأربعة. لكن «حزب الله» كان ملتزماً أمام عون أن يسدِّد له «الدَيْن»، بعد كل الخدمات التي أدّاها له، فقرّر تبني انتخابه رئيساً، على أن يعود «الحق» في الرئاسة إلى فرنجية بعد 6 سنوات. لكن تحالف بري – الحريري – جنبلاط بقي يفضّل فرنجية. وجاهَر بري بمعارضته لعون في جلسة الانتخاب.
واليوم، يقاتل بري مجدداً لإيصال فرنجية، لأنه بين الأقطاب المسيحيين الأربعة هو الأكثر انسجاماً مع مناخات اللعبة السياسية التقليدية في لبنان. وفي الواقع، يخرج بري من تجربة تعايش مريرة وعسيرة مع عهد عون، شهدت تجاذبات حادة وصدامات سياسية، ودخل الوزير جبران باسيل على خطها، فتحولت أحياناً مواجهات في الشارع كادت ان تشعل اشتباكات أهلية على بعض «خطوط التماس» القديمة الباردة.
ولكن، ثمة أمور حصلت في السنوات الأخيرة لا يمكن تجاهلها، وأبرزها خروج الحريري من المعادلة. وهذا الخروج أدى إلى خسارة القوى الشيعية «مفتاحاً» قوياً كانت من خلاله تدخل إلى الطائفة.
فتموضع الحريري خلال ترؤسه الحكومات كان يتّصِف بالإرباك. فهو من جهةٍ ورثَ الخصومة القديمة مع «حزب الله»، من زمن والده الرئيس رفيق الحريري. ومن جهة أخرى، هو متفاهم دائماً مع الرئيس نبيه بري، ومن خلاله يطبّع علاقاته بشكل غير مباشر مع «الحزب». وهذا ما شجع السعوديين على دفع الحريري إلى الخروج من المعادلة، لعل ذلك ينتزع مفتاح الطائفة السنّية من أيدي «الثنائي». فهل تَحقّقَ هذا الهدف فعلاً؟
لقد اعتمد «الثنائي» خطة جديدة للتعامل مع هذه الطائفة وضمان استيعابها بعد خروج الحريري، وهي تقضي باستمالة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والشخصيات السنّية «بالمُفرَّق». ولذلك، تلقّى ميقاتي دعم «الثنائي» بشكل واضح في نهايات العهد، على حساب عون، كما أنه يتلقى الدعم اليوم لعقد جلسات للحكومة في ظل الفراغ الرئاسي.
وفي رأي بعض المطلعين أن بري، الذي كان يَعدّ الساعات لانتهاء ولاية عون «المُتعِبة»، لن يكرّر التجربة في أي شكل مع أي «قطب» ماروني في موقع الرئاسة، باستثناء فرنجية الذي يشكّل حالة منسجمة مع تحالف بري – ميقاتي – جنبلاط، والمقصود في الدرجة الأولى باسيل الذي سيشكل استكمالاً لعهد عون، ولكن بدرجة أعلى من التشنج.
ولكن، إذا تعذّر إيصال فرنجية، وإذا لم يكن قائد الجيش هو المرشّح المفضّل لدى «الحزب»، فالبديل الوحيد في هذه الحال هو مرشح ثالث من خارج نادي الأقطاب الموارنة. وثمة أسماء كثيرة «جاهزة». ويمكن للعديد منها أن يكون «غير استفزازي» وأن تُوافق عليه بكركي. ويعني ذلك عملياً العودة إلى نموذج الرئيس الياس الهراوي و»ستاتيكو» السلطة الذي كان سائداً في تلك المرحلة.
وإذا حصل ذلك، فسيعود التمثيل المسيحي في رئاسة الجمهورية إلى ما قبل مرحلة عون، بل إلى ما قبل «تفاهم مار مخايل»، أي إلى النهج الذي تمّ اعتماده عندما كانت القوى المسيحية غائبة عن المسرح السياسي والسلطة.
والمفارقة في هذه الحال هي أن طائفتين – لا طائفة واحدة – ستكونان غير ممثلتين في السلطة على مستوى الأقطاب، وهما المسيحيون والسنّة. وسيتمتع الشيعة وحدهم بقوة التمثيل في رئاسة المجلس التي ستتلقى الدعم من «حزب الله»، وسيكونون مرتاحين في إدارتهم للسلطة 6 سنوات على الأقل.
ثمة مَن يقول إنّ قدرات «التيار الوطني الحر» قد تتراجع في هذه الحال، نتيجة ضغط سيمارَس لسحب العديد من النواب أعضاء «التكتل»، بأعذار مختلفة، وضمّهم إلى اصطفافات جديدة.
وثمة من يقول أيضاً إن القوى المسيحية ستتقارب بعدما «جمعتها المصيبة» مرَّة أخرى. وفي العادة، لا يكون اجتماع هذه القوى لِتجنُّب المصائب. يكون إمّا نِتاجاً لمصائب وقعت، أو إنتاجاً لمصائب ستقع. أمّا مَن المسؤول؟ فللحديث صلة.
طوني عيسى- الجمهورية