برّي الــNew…: قلق المنظومة كلّها: لماذا يخوض هذه المواجهة مع المسيحيين؟

سؤال عقلاني ينبغي أن يطرحه اللبنانيون: لماذا غادر الرئيس نبيه برّي اللياقات السياسية التي لطالما اتّسم بها بوسمِهِ مرشّح الفريق الآخر بـ “التجربة الأنبوبية”، وهو ما يُعتبر من خارج المألوف السياسي؟

عكس كلامه توتّراً فائضاً عن السياسة. في المضمون أعلن أمرين:

– سليمان فرنجية مرشّح وجوديّ.

– والنصف زائداً واحداً “نملكه”.

ردُّ المرشّح ميشال معوّض كان أسوأ بكثير ومن خارج اللياقات. وأيضاً ما كان من داعٍ لأن تستنفر السفيرة الأميركية دوروثي شيا وتزوره. هذا النوع من الحضور والأداء يبرّر عند برّي وحلفائه رفع هتافات “مقاومة السيطرة الغربية”.

سؤال آخر ينبغي طرحه: لماذا يخوض برّي هذه المواجهة مع المسيحيين؟

فهو خرج إلى معركة وجوديّة: من قائد الجيش إلى ميشال معوّض. كان معروفاً عن الرجل حرصه الشديد على نسج أفضل العلاقات مع المسيحيين، وخصوصاً التقليديين منهم، وكذلك مع البيوتات السياسية العريقة. فما الذي استجدّ حتى فعل ما فعل؟

في تصريحه إلى الزميل نقولا ناصيف في جريدة “الأخبار”، خرج رئيس مجلس النواب عن سلوكه المألوف. وإذا كان ماضيه نهض على محاربة “المارونية السياسية”، فإنّه في المقابل اتّسم بحرصٍ شديدٍ على حضور “مسيحية سياسية” حيوية في النظام السياسي اللبناني.

منذ 23 عاماً تجرّأ وزار بكركي بعد نداء مجلس المطارنة المطالِب بانسحاب الجيش السوري. حينها أُصلي حرباً من الرئيس إميل لحود الذي اعتبر بوعي سياسي محدود أنّ الزيارة تحدٍّ وهدّد باستقالته إذا قرّر “السوريون” المصالحة مع المسيحيين عبر الرئيس “الشيعي”. مبادرته آنذاك عدّها كثيرون “استثنائية”. فما الذي حصل اليوم حتى يدير ظهره لبكركي والمسيحيين من غير العونيين؟

في وداع العقلانية

الأسئلة العقلانية في لبنان احترقت. أو قُل استُبعدت. صارت الغرائز سيّدة المواقف. حتى الجوع والانهيار المتدحرج لم يكبحا تسيّد التوتّر والانشداد العصبي. هذا ما نراه في انعدام الدور الإيجابي لما بقي من سياسيين محترفين، ولمن استجدّ من قوى سياسية “تنام بالبرلمان” في حين أنّ التحدّيات التي تواجه هياكل الدولة وأهلها من طبيعة وجودية.

عدم ردّ الأسئلة إلى أسباب بعينها ينطوي على مغامرتين:

– الأولى: اعتبار برّي من السياسيين الذين يرتجلون الكلام، وهذا يعني ضمناً الانتقاص من مهارات الرجل وباعه الطويل في السياسة.

– الثانية: العجز عن التعامل مع الأسئلة لأنّها لم تخضع للتحليل والفهم. هذا تبسيط يقابله تبرير: الانقسام مُقيم في لبنان منذ زمن. وإذا صحّ أنّ الانقسام الحادّ حصل بسبب اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط من عام 2005، صحّ أيضاً أنّ برّي كان على الدوام ممّن يمسكون العصا من النصف، حتى في ذروة تصادم 8 و14 آذار.

الذين يصنّفون كلام برّي من ضمن السجال السياسي ربّما تكون لديهم حجج قاطعة. لكنّ هذه الحجج لا تعود مُقنعة حين يتجاهلون “الشراسة السياسية” المستجدّة عند رئيس البرلمان، وعندما يهملون تمسّكه بفرنجية، وذلك على الضدّ من الكلام عن تسويات سياسية، وعندما لا يتبصّرون بالمعنى الحقيقي للكلام عن النصف زائداً واحداً.

الكلام الأخير موجّه تحديداً إلى الولايات المتحدة التي أوفدت ذات مرّة من يهمس لـ”14 آذار” بأن تنتخب رئيساً على هذه القاعدة. وكان ذلك ليحصل لولا ممانعة البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير.

قلق المنظومة كلّها

احتمالات التصعيد ترتفع. كان ليخفّفها بقاء برّي في مربّعه. وهذا مصلحة للبنان لو قُيّض للمصلحة أن تحكم. لكنّ ما يحصل هو استشعار المنظومة السياسية برمّتها بتداعيها وبتصدّع النظام السياسي. أساساً قد يصحّ عدم الفصل بين المنظومة والنظام. الأولى أنهكت الثاني بممارساتها وأدائها. ويسري على نحو شائع أنّ الرحيل المنتظر لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة يندرج من ضمن هذا السياق. “ثورة 17 تشرين” عام 2019 قدّمت إسهامها في هذا المجال، لكنّ من لم يسقط بفعلها سيخرج بفعل المهل الدستورية والقانونية. وما لم تحقّقه الانتخابات السابقة قد تنجز بعضه الانتخابات النيابية المقبلة. هذا ما عاد بالأمر العسير مع تراجع الولاءات للزعماء والمناطق التي استند إلى إحداها المرشّح معوّض معتبراً كلام برّي “إهانة لمنطقة”.

المسألة أعقد من ثنائية: مع برّي أو مع معوّض. ضدّ الاثنين: نعم. لكن ماذا بعد؟

صار مستحيلاً ترك البلد على ما هو عليه منذ تسعينيات القرن الماضي. الأصعب هو إهمال خوف اللبنانيين وجوعهم ونحن أمام مأزق كبير لبلدٍ منكوب بكلّ شيء: بثقافته ونخبه، باقتصاده وسياسته. عجز عن تطوير موقف وطني يرفض ما هو قائم ويطرح بدائل ديمقراطية وحداثوية. ما من تصوّر مضمون وواضح عن لبنان الدولة في ظلّ ما هو قائم منذ أربعة عقود.

درجة ابتعادنا عن معنى الدولة أعقد من أن تحلّه تسوية من هنا أو من هناك. اختلافنا مع العرب والمجتمع الدولي أضخم من أن يعالجه بيان يصدر عن هذا الرئيس أو تلك الوزارة. نحن مختلفون معهم على كلّ شيء تقريباً: من الاقتصاد إلى الدولة، ومن الدولة إلى الدويلة، ومن الانتخابات إلى قوانينها المفصّلة، ومن الديمقراطية إلى الطائفية، ومن الشفافيّة إلى التلزيمات، ومن الاستقلال إلى الوصاية فالاحتلال. مختلفون على قيم كثيرة.

في حال كهذه، فلننتظر معاني كلام برّي وسلوكه الجديدين، وهو انتظار لا يبعث إلا على المخاوف.

ايمن جزيني- اساس

مقالات ذات صلة