بالوثائق: فضيحة التزوير الجديد في ميزانيّة مصرف لبنان
مع مرور كل يوم، ينكشف المزيد من تفاصيل فضيحة ال16.5 مليار دولار، التي قرّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إضافتها كدين على الدولة اللبنانيّة منذ بداية شهر شباط الماضي. فبعد اعتماد سعر الصرف الرسمي الجديد، أي 15 ألف ليرة مقابل الدولار، لجأ الحاكم إلى قيد كل الدولارات التي باعها للدولة منذ العام 2007 كإلتزامات عليها في حساب جاري مدين جديد. باختصار، لم يعد الحاكم يعترف بعمليّات القطع (تحويل من الليرة إلى الدولار) التي قام بها لحساب الدولة، وقرّر العودة بالزمن إلى الوراء، وتسجيل العمليّات كديون بمفعول رجعي. ولفهم فظاعة المسألة وغرابتها، يمكن لعميل أي مصرف أن يتخيّل تلقيه اتصالًا من مصرفه، يخبره أن هناك ديون جديدة استحقّت عليه، مقابل دولارات اشتراها من حسابه بالليرة قبل 15 سنة .
تحايل وتواطؤ
الأغرب في هذا الملف، هو أنّ مصرف لبنان تلقى –مقابل ال16.5 مليار دولار التي باعها للدولار- أكثر من 17.5 مليار دولار بالعملة الصعبة، من المال العام، أي مال الدولة اللبنانيّة. وهذا تحديدًا ما جرى من خلال عمليّات استبدال خاصّة (سواب)، أصدرت فيها الدولة اللبنانيّة سندات يوروبوند بالعملة الصعبة، وراكمتها كديون عليها، قبل أن تستبدلها بسندات بالليرة مع مصرف لبنان. وبهذه الطريقة، تمكن المركزي من الحصول على السيولة بالعملات الأجنبيّة عبر بيع سندات اليوروبوند، على حساب الدولة والمال العام. وبذلك، يكون المركزي قد عاد الزمن لاستعادة ما باعه من عملات أجنبيّة للدولة، بعد أن ترسمل خلال الفترة نفسها من قيمة أكبر من الدولارات على حساب الدولة .
كل ما سبق ذكره، لم يكن سوى تلخيص لما كنّا نعرفه حتّى يوم أمس عن الفضيحة، والتي ستترك أثرها على حسابات توزيع الخسائر. فزيادة هذا القدر من الديون على الدولة، سيعني تقليص خسائر القطاع المصرفي بهذا الحجم، مقابل تحميل المال العام –أي دافعي الضرائب- قيمة موازية من الخسائر. واتصال هذه الفضيحة بحسابات توزيع الخسائر، بعد تواطؤ المعنيين مع سلامة في هذا الملف، سرعان ظهر من خلال المراسلات الأخيرة، التي طلب بموجبها رئيس لجنة المال والموازنة الأرقام التي تسمح بتدقيق حجم الفجوة الماليّة، بينما قررت رئاسة الحكومة الاستناد إلى أرقام رياض سلامة الجديدة لتأمين هذه الأرقام .
فضيحة التزوير الجديد
مع تسرّب المعلومات التي أرسلها المصرف المركزي إلى لجنة المال والموازنة، انكشف اليوم المزيد من فصول الفضيحة. إذ تبيّن أن حاكم مصرف لبنان لم يكتف بإدراج ال16.5 مليار دولار كدين جديد، أُضيف بعد زيادة سعر الصرف إلى ال15 ألف ليرة مقابل الدولار، بل قام بقيده على الميزانيّات السابقة، وفي التواريخ التي سبقت رفع سعر الصرف. وبهذه الطريقة، وضمن المعلومات التي تم أرسالها إلى لجنة المال والموازنة، نجد أن الميزانيّة الموقوفة في كانون الأوّل 2022 تحتوي على بند بإسم “مطلوبات للقطاع العام: صافي حساب مدين تراكمي بالعملات الأجنبيّة”، كما نجد أن حاكم مصرف لبنان أضاف رصيد قدره 24,858,857.4 ليرة لبنانيّة، وهو ما يوازي قيمة ال16.5 مليار دولار وفقًا لسعر الصرف الرسمي القديم (أي 1507.5 ليرة مقابل الدولار).
ببساطة، بات بإمكان المرء أن يحمل مستندًا جديدًا يُظهر أن الدولة كانت مدينة –في نهاية 2022- بقيمة 16.5 مليار دولار لمصلحة مصرف لبنان. كما بإمكانه أيضًا أن يحمل ميزانيّات سابقة، تحمل التاريخ نفسه، تُظهر “صفر” كرصيد لبند “ديون القطاع العام”. وبهذا المعنى، لم يعد ال16.5 مليار دولار دينًا استجد ذكره بحجّة سعر الصرف الجديد، بل تم تزوير الميزانيّات السابقة لدس الرقم –عن غير وجه حق- في ميزانيّات الأعوام السابقة.
الصورة 1): ميزانيّة مصرف لبنان في نهاية العام 2022، كما في المعلومات التي أرسلها المصرف إلى لجنة المال والموازنة، وتظهر قيمة بند “ديون القطاع العام” بعد تعديله.
(الصورة 2): أرقام بند “ديون القطاع العام” كما كانت قبل التعديل، على الموقع الرسمي لمصرف لبنان.
امتهان التزوير في ميزانيّات مصرف لبنان
لم تكن هذه المرّة الأولى التي يلجأ فيها حاكم مصرف لبنان لتزوير ميزانيّات المصرف المركزي. فأحد الاتهامات الموجهة للحاكم، بحسب الادعاء المقام بحقّة من قبل النيابة العامّة الاستئنافيّة في بيروت، يتصل تحديدًا بتزوير الميزانيّات في تواريخ سابقة، لإخفاء كتلة من الخسائر التي تراكمت في ميزانيّة المصرف، على حساب أموال المودعين. وهذه الخسائر، هي تحديدًا ما يحاول سلامة –بالتواطؤ مع آخرين في السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة- رميه على كاهل دافعي الضرائب، من خلال قيد جزء من هذه المبالغ كديون على الدولة اللبنانيّة.
في المقابل، لا يبدو أن ثمّة ما يكفي من اهتمام بكل هذه المستجدات، من جانب الغالبيّة الساحقة من الكتل النيابيّة، باستثناء تسعة نوّاب تغييريين قاموا بتوجيه سؤال للحكومة بخصوص هذا الموضوع. في الوقت نفسه، لا يبدو أنّ الملف قد نال حتّى اللحظة أي اهتمام من جانب القضاء اللبناني، رغم اتصال القضيّة بشبهات التزوير في حسابات المصرف المركزي، تمامًا كحال عمليّات إخفاء الخسائر السابقة.
علي نور الدين- المدن