قمع أجهزة النظام للثوّار لم يدفن الثورة … فهل تنفرج أم تنفجر؟
تُحاصر الأزمات الداخليّة والخارجيّة المتفاقمة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة الذي يعمل على ايجاد ولو «متنفّس ديبلوماسيّ» واحد يُخفّف من ازدياد حجم «كرة ثلج» المشكلات المتراكمة التي باتت تؤرق القيادة الإيرانيّة. فالمزاج الشعبي المُطالب بإسقاط النظام، محصّن بشرعيّة مجتمعيّة متنامية على رغم انحسار الحراك الميداني الذي قد يستعيد زخمه مع بلوغ التضخّم معدّلات مرتفعة وتدهور سعر صرف الليرة الإيرانيّة إلى مستويات قياسيّة، فضلاً عن تفاعل قضيّة تسميم عدد هائل من التلميذات الإيرانيّات بشكل متعمّد وممنهج على مدى أشهر ربطها البعض بمجموعات متديّنة تُريد إبعادهنَّ عن مقاعد الدراسة، بينما يرى ناشطون معارضون أنّها عمل منظّم ومدروس من قبل الأجهزة الأمنيّة، وسط تضارب روايات المسؤولين الإيرانيين وتناقضها. أمّا خارجيّاً، فالعيون الإقليميّة والدوليّة تُراقب بحذر تطوّر البرنامج النووي الإيراني، إضافةً إلى برامج الصواريخ الباليستيّة والطائرات المسيّرة التي اتّخذت بُعداً أكثر خطورة على ضوء استخدامها من قبل موسكو لإلحاق الضرر بالبنى التحتيّة المدنيّة في أوكرانيا.
مخطئ من يعتقد أن انحسار حركة التظاهرات في المدن الإيرانيّة يؤشّر إلى أن «ثورة الحرّية» تلفظ أنفاسها الأخيرة، فالتاريخ يُعلّمنا أن أي حراك ثوري يمرّ بمراحل عدّة، لكلّ منها توقيتها ومعطياتها وظروفها. وعلى الرغم من بلوغ المرحلة الأولى ذروتها وانحسارها نسبيّاً أخيراً، بيد أن المراقبين يُجمعون على أن ثورة «إمرأة، حياة، حرّية» تتهيّأ للدخول في مرحلتها الثانية التي بدأت تظهر بشكل واضح في الحياة اليوميّة للإيرانيين، حيث تتحدّى فتيات ونساء كثيرات أجهزة النظام والبيئات المحافظة بعدم الإلتزام العلني الجريء بارتداء الحجاب، كما من خلال استهداف رجال الدين التابعين للنظام وإشعارهم بأنّهم غير مرغوب بهم في الشارع والساحات والفضاءات العامة، في وقت تضجّ فيه مواقع التواصل الاجتماعي بآراء الجيل الصاعد المناهضة للنظام الإسلامي والداعية إلى إسقاطه.
لم يستطع قمع «الباسيج» وقوات الأمن من بثّ الخوف والرعب في نفوس المنتفضين، لا بل زادهم رغبةً وإصراراً على تحدّي واقعهم المرير والنضال من أجل إسقاط نظام الملالي، مهما كان الثمن ومهما طال الزمن، هذا ما يُشدّد عليه المعارضون في داخل إيران وخارجها. وأتت سلسلة من «الهجمات الرجعيّة» في الأشهر الأخيرة طالت تلميذات عبر تسميمهنَّ جماعيّاً داخل عشرات المدارس في مدن ومحافظات عدّة، بينها قم وطهران، بهدف إرسال رسالة ترهيب لهنَّ وذويهنَّ، الأمر الذي أثار غضباً أهليّاً عارماً في وجه السلطات، متّهمين إيّاها بعدم التحرّك الجدّي لكشف الفاعلين وايقافهم ومعاقبتهم، لا بل ذهب معارضون إلى حدّ اتّهام أجهزة النظام بالوقوف خلف حملة تسميم الطالبات بهدف تخويفهنَّ ومعاقبتهنَّ على مشاركتهنَّ الفاعلة في «ثورة الحرّية» وتحدّي النظام برفض ارتداء الحجاب.
وما زاد من سخط الأهالي واشمئزازهم هذا الأسبوع، انتشار فيديو يظهر فيه رجل أمن بزيّ مدني وهو يشدّ والدة غير محجّبة من شعرها بعنف ويعتدي عليها مع رجال آخرين أمام مدرسة في طهران، حيث كانت قد هرعت إليها للإطمئنان على ابنتها بعدما أُبلغت بأنّ طالبات أصبنَ بتسمّم جرّاء تنشّق نوع من الغاز. وفيما تترقّب طهران وتعدّ عدّتها الأمنيّة لعودة التحرّكات الشعبيّة مع فشلها في مقاربة ملفات حياتيّة وماليّة واجتماعيّة واقتصاديّة وتربويّة وبيئيّة… ملحّة، يُجمع المراقبون على أن القيادة الإيرانيّة الثيوقراطيّة أخطأت في حساباتها الجيوسياسيّة الخارجيّة، خصوصاً لناحية تزويدها روسيا بآلاف المسيّرات الانتحاريّة لاستخدامها ضدّ أوكرانيا، إذ إن هذه الخطوة دفعت القوى الأوروبّية الموقّعة على الاتفاق النووي الإيراني وغيرها من دول «القارة العجوز» إلى إعادة تعديل سياساتها ومقارباتها وتشديدها تجاه طهران التي خرقت خطوطاً أوروبّية حمراً بالدخول على خطّ الحرب في أوكرانيا كطرف يُزوّد روسيا بأسلحة تقتل أوكرانيين مدنيين وتُشكّل تهديداً على أمن الدول الأوروبّية والأمن الأوروبي الجماعي.
وبالإضافة إلى «سقطة المسيّرات» مع الأوروبّيين، تتدهور العلاقات الديبلوماسيّة بين طهران والعواصم الأوروبّية مع تأجيج إيران لما بات يُعرف بـ»ديبلوماسيّة الرهائن» التي تنتهجها لإبتزاز الغرب، عبر إصدارها أحكاماً بالسجن والإعدام تباعاً بحقّ إيرانيين من حاملي جنسيّات أوروبّية. كذلك، دفعت الجمهورية الإسلامية الدول الشرق أوسطية والأوروبّية والمجتمع الدولي إلى دقّ ناقوس الخطر النووي مع رصد الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة في إيران جزيئات من اليورانيوم المخصّب بنسبة 83.7 في المئة، أي أقلّ بقليل من نسبة 90 في المئة الضروريّة لإنتاج قنبلة نوويّة، في حين رفعت إيران أيضاً مخزونها إلى 3.7608 كلغ بحيث تجاوز 18 مرّة السقف المسموح به وفق اتفاق العام 2015.
وكان صادماً التصريح الذي أدلى به وكيل البنتاغون لشؤون السياسات كولن كال عن مدى خطورة البرنامج النووي الإيراني، حين حذّر خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلّحة في مجلس النواب الأميركي الثلثاء من تقدّم لافت في برنامج طهران النووي، كاشفاً أن الجمهوريّة الإسلاميّة باتت بحاجة إلى 12 يوماً فقط لصنع قنبلة ذريّة إذا أرادت ذلك. وهذه التطوّرات النوويّة الدراماتيكيّة تُحدث تصدّعات مزلزلة على كامل خطوط «الفوالق الجيوسياسيّة» الشرق أوسطيّة، حيث قد تفتح سياسات طهران الباب أمام سباق تسلّح نوويّاً في المنطقة، بينما يبقى الترقّب لما قد تلجأ إليه إسرائيل من خطوات سياسيّة وديبلوماسيّة وأمنيّة وعسكريّة على ضوء المستجدّات النوويّة الإيرانيّة المقلقة للغاية في أوساط دوائر القرار في تل أبيب، كما في واشنطن.
عادت هذه السنة لتبرز من جديد «الحرب السرّية» بين الدولة العبريّة والجمهوريّة الإسلاميّة مع استهداف إسرائيل لمركز تصنيع حربي داخل العمق الإيراني في أصفهان بهجوم بطائرات مسيّرة، لتردّ بعدها إيران باستهداف سفينة نفطيّة يملكها رجل أعمال إسرائيلي في بحر العرب بهجوم بمسيّرات أيضاً. وهنا تُطرح علامات استفهام عديدة حول ما قد يحصل في المستقبل القريب، فهل دخلنا في مرحلة ستستعر فيها «الحرب الخفيّة» بين تل أبيب وطهران؟ وماذا لو كانت الحسابات المعقّدة لدى الجانب الإسرائيلي، المأزوم داخليّاً، تقتضي بشنّ هجوم عسكري شامل لتدمير المنشآت النوويّة الإيرانيّة بشكل كامل وإنهاء تهديد برنامجها الذرّي جذريّاً في أقرب فرصة ممكنة، قبل نجاح طهران بتعزيز دفاعاتها الجوّية مع ورود تقارير تُفيد بأنّ موسكو قد تُسلّمها أنظمة صواريخ «أس 400» المتطوّرة؟ وماذا عن موقف واشنطن التي تعهّدت مراراً بأنّها لن تسمح لإيران بإمتلاك السلاح الذرّي ولو اقتضى الأمر في نهاية المطاف الذهاب إلى الخيار العسكري؟ وكيف سيكون حجم الردّ الإيراني على مثل هكذا هجوم، ومن أي ساحة أو ساحات سينطلق؟
ووسط هذه الأجواء السياسيّة والديبلوماسيّة والعسكريّة والأمنيّة العاصفة، سُجّلت مؤشّرات إقليميّة مستجدّة في اتجاه إعادة تفعيل الحوار بين المملكة العربيّة السعوديّة وإيران بوساطة عراقيّة في بغداد قريباً، كان آخر تجليّاتها حراك رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، الذي زار إيران الأسبوع الماضي والتقى كبار المسؤولين فيها، على هذا الخطّ بالذات. بالتوازي، تبقى الأنظار شاخصة إلى زيارة المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافايل غروسي إلى طهران، حيث سيلتقي اليوم مسؤولين إيرانيين بينهم رئيسي «لإعادة إطلاق الحوار»، وما قد ينتج عنها من احتمال خفض التصعيد النووي إذا ما قبلت إيران بتقديم تسهيلات وتنازلات للوكالة الذريّة. فهل تنجح الجهود الديبلوماسيّة بخرق مشهديّة التأزّم الإقليمي وخفض منسوب التوتر، وبالتالي سحب فتيل التفجير «النووي وغير النووي»، وربّما التمهيد لحلحلة سياسيّة في دول كاليمن وسوريا ولبنان؟ أم أن ضجيج قرع طبول الحرب يبقى أعلى وأقوى من أصوات الوسطاء وجهودهم؟ بما لا شكّ فيه أن إيران والمنطقة تمرّان بمرحلة مفصليّة حسّاسة ستُحدّد وجهتهما ملامح الشرق الأوسط للربع الثاني والثالث من القرن الحادي والعشرين.
جوزيف حبيب- نداء الوطن