أعداد المسيحيين ليس “تفصيلاً سياسياً” بريئاً ولا زلة لسان: “نزوح إلى متحف التاريخ”!
خطأ الرئيس نجيب ميقاتي في كلامه عن “تقرير ورد إلى البطريركية المارونية يشير إلى أن نسبة المسيحيين في لبنان باتت 19,4%” يداني الخطيئة، في توقيته قبل دقة وصحة مضمونه. لا يشفع له كثيراً أن يضيف أن “التقرير وصلني لكنه ليس مؤكداً”. على العكس، يعزز ذلك، عند كثير من المسيحيين، افتراض سوء مقصد ورسالة.
فلا شك أن ميقاتي يعرف أن إيراد أي معلومة على لسان رئيس حكومة، ولو في معرض التشكيك فيها، يرسخها في الأذهان. فكيف إذا كانت معلومة تطال “توازنات” البلد في ظرف يعيش فيه المسيحيون قلقاً على مصير الانتخابات الرئاسية، ويتشاركون مع جميع اللبنانيين الخوف على المستقبل؟
هل كان البلد يحتاج فعلاً إلى إثارة هذا الموضوع، مما استدعى نفياً من البطريركية المارونية ورداً قاسياً من “المؤسسة المارونية للإنتشار”، تساءلت فيه عن “سبب اهتمام الرئيس ميقاتي بعدّ المسيحيين بدلاً من أن يصب جهوده على الأمور التي تخفف من نزيف الهجرة، الذي يطال جميع اللبنانيين، ولاسيما بؤر البؤس حيث يدفع الناس أموالاً طائلة لركوب زوارق الموت”.
تلميح أقسى من التصريح في لفت نظر رئيس الحكومة بوجوب أن يقلق قليلاً على منطقته المنكوبة، كما على “أعداد النازحين وولاداتهم المتزايدة باطراد، بما يهدد هوية لبنان الكبير، الذي يعاني أصلاً من فساد الحكام وانهيار مقومات الدولة”.
هوية لبنان: بيت القصيد
تحسُس البطريركية المارونية والمؤسسة المارونية للانتشار وغيرهما، وانزعاجهم من كلام ميقاتي ليس لعدم دقته فقط، إنما لإثارته مواجع حقيقية. فالديموغرافيا ليست تفصيلاً في لبنان. يعرف المسيحيون تداعيات ومعنى تراجع أعدادهم، بعد أن كانوا يملكون الأغلبية يوم إعلان لبنان الكبير، ولاحقاً الجمهورية اللبنانية.
يتمسكون بكلام الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي أعلن “وقّفنا العدّ”. لكن، أليس في “وقف العدّ” نفسه إقراراً بأن العدّ نتائجه مقلقة؟
في شباط من العام 1997 كتب عباس بيضون في ملحق النهار “أعطى المسيحيون لبنان نظامه. فهم مركز الدولة والاقتصاد والسياسة والثقافة وأساليب العيش وأنماطه.. لقد تماهوا مع لبنان وتمّ لهم وحدهم أن يجعلوا من تاريخهم وثقافتهم تاريخاُ سائداً وثقافة سائدة.. من الصعب بعدُ العودة إلى ما وراء الدولة كما صاغها الموارنة..”.
لكن ها هم المسيحيون يلمسون باليومي “العودة إلى ما وراء الدولة” كما صاغوها وحلموا بها. يتعاظم خوفهم من تراجع دورهم وحضورهم وتأثيرهم في المسار السياسي العام.
ووسط هذ الخوف، يأتي من يعيد إدخال الرقم كعامل في اللعبة الوطنية، فيترجمه المسيحيون فوراً تهديداً لهوية لبنان الذي سعوا جاهدين ليكون وطناً لهم بالشراكة مع الآخرين.
ليس “تفصيلاً سياسياً” بريئاً، ولا زلة لسان، الحديث عن أعداد المسيحيين وموقع رئاسة الجمهورية الماروني شاغر. هو كلام حول التوافقات الوطنية، وفي كل مرّة تُثار يتم التلميح ضمناً إلى “تسامح” الأكثرية مع حكم “أقلية” متمسكة بأسطورتها المؤسسة. تسامحٌ، وليس خياراً حرّاً عن قناعة مستندة إلى تجربة غير بسيطة بإيجابياتها وسلبياتها. وهو ما يزعج المسيحيين ويقلقهم.
مسؤولية المسيحيين
توقيت كلام ميقاتي لا يلغي أن بعض الحقائق يجب أن تُواجه وتقال. وهو ما يُلزم المسيحيين أن يراجعوا تجربتهم وسلوكهم ودورهم، وهم يضعون على طاولة التشريح والدراسة “وزناتهم”، وأين أخفقوا في زيادتها وأين أصابوا وماذا تعلموا من تجاربهم، وما هو واقعهم اليوم؟
تفعل جامعة الروح القدس في الكسليك بعضاً من ذلك، أرشفة ودراسات. تكثر حلقات النقاش الداخلي في أوساط النخب. يهمس كثيرون منهم بضرورة البحث عن نظام “جديد”. يراهن بعضهم على النخب الإسلامية لترفع الصوت أن الدور المسيحي مصلحة إسلامية أولاً.
يحاولون جميعاً التخفف من مسؤولية قياداتهم وتبعات أخطائهم. لذا قد يبدو مفيداً استعادة سؤال الآباتي بولس نعمان، وهو من هو في التاريخ المسيحي الحديث، حين سأل في كتابه: “لبنان الموارنة إلى أين؟” ليجيب: إما نخبة تقود بتجرد، أو نزوح إلى متحف التاريخ”.
… والتاريخ يشهد على جماعات كثيرة طواها في غياهبه.
دنيز عطالله- المدن