رصد للعبارات القليلة.. صمت الحريري كان مدوّياً؟
خرقت زيارة الرئيس سعد الحريري السريعة لبيروت في مناسبة الذكرى 18 لاستشهاد والده الأجواء السائدة في البلاد بين السعي الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية وترتيب جدول أعمال جلسة تشريعية على وَقع الجولة التي باشَرها سفراء دول «لقاء باريس» الخماسي من أجل لبنان. وعبّر صمته السياسي عن كثير ممّا يحتمل قوله، خصوصاً لجهة الأسباب والدوافع التي قادته الى تجميد عمله السياسي. ولذلك، طرح السؤال عمّا يعنيه صمته وهل كان مدوّياً؟
منذ اللحظة الاولى التي وطأت قدما الحريري أرض بيروت تعددت السيناريوهات التي سبقت زيارته ورافقتها وتلتها، على رغم من الإعلان مسبقاً عن هدفها وهو إحياء الذكرى الـ18 لاغتيال والده من دون التطرق الى العمل السياسي والحزبي. خصوصا ان هذه الذكرى تصادف مرور سنة تقريبا على اعتكافه واعلانه العزوف عن العمل السياسي والحزبي على عتبة الانتخابات النيابية التي جرت منتصف ايار الماضي، وذلك من دون وقف النشاطات الاخرى التي تقوم بها المؤسسات الحزبية والعائلية المكلفة الشؤون الانسانية والاجتماعية والانمائية على رغم من المصاعب الاقتصادية والنقدية التي تعيشها البلاد، وألقت بظلالها الوافرة على كل شيء فيها وضمنها المكونات الحزبية المختلفة.
وقد توقف المراقبون باهتمام بالغ عند اي حركة قام بها الحريري للتثبت من مدى التزامه بوقف اي نشاط سياسي او حزبي. ولذلك، فما عدا الوقفة لقراءة الفاتحة على ضريح والده عند الاولى إلا خمس دقائق بعد ظهر 14 شباط وما رافقها من حشد شعبي لافت حول الضريح، وذلك الحراك المُماثل الذي وافاه الى باحات بيت الوسط، اكتفى الحريري بإلقاء التحية على من سمّاهم «محبّي رفيق الحريري»، قائلاً: «الله يعين لبنان».
وعَدا عن هذه العبارات الممزوجة بالشكر والامتنان لفّ الغموض سلسلة الاجتماعات التي شهدها «بيت الوسط»، ولم يعلن رسمياً عن ايّ منها ولو بصورة، سواء تلك التي عقدت تحت عناوين حزبية كاجتماع المكتب السياسي لتيار «المستقبل» أو لمسؤولي المؤسسات التنموية، لم يكن هناك بد من تغطية زيارته لمفتي الجمهورية الدكتور عبد اللطيف دريان للاطمئنان الى صحته، وكذلك زيارته لرئيس مجلس النواب نبيه بري وتَرك المجال حراً لمن أراد توصيف اللقاءات السياسية والحزبية التي عقدها على مسؤوليتهم الشخصية، من دون اي تعليق سوى ذلك الذي اضطرّ مستشاره الى نَفيه عندما قيل انه استقبل وفداً من «حزب الله» في المناسبة.
على هذه الخلفيات، ووسط هذا الصمت الذي لَف معظم فعاليات الزيارة بأيامها القليلة، اضطر المراقبون الى رصد العبارات القليلة التي صدرت عنه، وخصوصا تلك التي اضطر الى استخدامها في اللقاء الذي جمعه بمجموعة صغيرة من الإعلاميين من أجل تفسيرها والتمعّن بما أراده منها والجهات المستهدفة. ولدى سؤاله في بداية اللقاء إذا كان متأكداً انّ من تحدث إليه هو الرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال عون؟ اكتفى بالرد أنه كان هو شخصياً، مُستغرباً «ان يستغرب أحد حصول مثل هذا الإتصال». وبعدها، توسّعت القراءات لبعض العبارات المفتاحية التي أدلى بها مُترافقة مع تأكيده انه لم ولن يتحدث في السياسة. الا ان البعض لا يمكنه تجاهل ما قصده الرجل عند التمعّن في بعض «العبارات المفيدة» والصالحة لتكون الرسائل التي أرادها من دون ان يتحمّل مسؤولية أي تفسير يمكن ان يصل اليه أحد. ولعل أبرزها تأكيده أنه ماضٍ في اعتكافه ليثبت مرة جديدة انّ عودته الى الحياة السياسية طويلة وبلا أي أفق ولا يمكنه التكهّن بأيّ موعد ليحيي لقاءاته مع مناصريه واللبنانيين.
وأمام هذه المباريات التي فتحت سيلاً من التفسيرات المنطقية وغير المنطقية، كان لا بد من بعض الملاحظات الأساسية التي عبّر عنها في بعض المواقف. فقوله مثلاً «إنّ ما بَلغه الفقر وما آل إليه وَضع البلد من انهيار هو نتيجة سوء الإدارة. فلبنان كأي بلد هو غني جداً، وكان يجب أن تُدار ثرواته لمصلحة كل الناس». فهو كان يشير بنحوٍ ما الى ما أعاق مؤتمر «سيدر 1» الذي كان سيوفّر للبلاد مليارات عدة لبعض البرامج وبهدف معالجة الوضع الاقتصادي والنقدي منعاً لانهيارها. ولكن ذلك كان مشروطاً بالتزام اللبنانيين بمجموعة الإصلاحات المطلوبة التي حالت دونها مناكفات فجّرت العلاقة بين أطراف التسوية التي جاءت بالعماد عون الى بعبدا وأعادت الحريري الى السرايا، ولمّا انفجرت ثورة 17 تشرين اضطر ان يلبّي نداء المتظاهرين ويُخلي الساحة للشباب، ولكن استقالته لم تكن كافية فقد كان على من يتولون المسؤولية الى جانبه ان يتقدموا باستقالات جماعية تعيد تكوين السلطة بما يرغب به المتظاهرون على مساحة لبنان من اقصاه الى اقصاه.
ولمّا قال الحريري: «ما الذي يمكنني ان أفعل إزاء ما بلغته الامور؟ لو كنتُ رئيساً لكتلة نيابية بالحجم الذي كنت أتمثّل به من قبل». فقد اراد ان يلقي الضوء على جوانب مخفية من علاقاته الداخلية منذ ان اضطر الى الدخول في تسوية العام 2016، فهل هناك من يدري انّ ترشيحه لسليمان فرنجية قبل استحقاق نهاية تشرين الاول عام 2016 كان بموافقة رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع قبل ان يأتي «اتفاق معراب» بما جاء من به من انقلاب كبير سعى الى إقامة «ثنائية مارونية» تحتكر كل شيء، قبل ان يطلب اليه تطويق ما ظهر من خلافات بين طرفيه من دون ان يكون له فيه أي رأي سوى انه قادَه الى تلك التسوية.
وما زاد في الطين بلة ما شهدته العلاقات المتوترة بين «معراب» و«ميرنا الشالوحي»، فانتصر لفريق منهما أحياناً وسعى الى التوفيق احياناً اخرى للحفاظ على الحد الادنى من التوازن في حكوماته. ولِمن لم يفهم هذه المعادلة عليه ان يتعمّق في تجربة تشكيل حكومته الثانية في عهد عون التي تلت انتخابات العام 2018 وتلك التي رافقت التعيينات والانتخابات عند تشكيل المجلس الدستوري وما رافقها من تجاذبات أدّت الى تحميله مسؤولية الفراق بين طرفين من دون ان يكون له فيه لا ناقة ولا جمل. ولا يغفل هذا الجانب من الازمة ما عاناه الحريري من تصرفات تجاوزت الحكومة اللبنانية ومنطق «النأي بالنفس» أدت إحداها الى «استقالة غير مسبوقة» في شكلها ومضمونها من الرياض في العام 2017 ولم يتمكن من ترميم علاقات لبنان بالدول الخليجية والعربية على رغم من التعهدات التي نالها. وزادت منها تصرفات البعض في سوريا واليمن الى ان باتت مثل هذه المهمة مستحيلة.
وعند رفض الحريري لمنطق يقول بتحميل التشرذم السني مسؤولية عدم انتخاب الرئيس فقد رَد بوضوح رافضاً المعادلة وموجّهاً اكثر من رسالة في اكثر من اتجاه، بقوله انّ «كل من قرر أن يحمي حقوق الطائفة حرق دينها». ومن لم يفهم هذه المعادلة فليقرأ ما يتعرض له اللبنانيون الشيعة في العالم وما يجري بِمن تعهّد ضمان مصالح المسيحيين وكأنها مفصولة عن مصالح اللبنانيين جميعاً.
وختاماً، هذا غيض من فيض ما يمكن ان يُقال أو لا يقال احياناً، لأنّ من أسباب اعتكاف الحريري محطات وأحداث لا يتّسع لها مقال، ولذك بقي صمته مدوياً لمن اراد البحث في أسبابه ودوافعه. ومن لا يريد ذلك ما عليه سوى ان يحصي النكبات التي حلّت باللبنانيين.
جورج شاهين – الجمهورية